الرئيسية » ثقافة وفن » أحمد غانم والمُدوَّنة الصّوفيّة العربيّة

أحمد غانم والمُدوَّنة الصّوفيّة العربيّة

 

*أحمد عزيز الحسين

لم يكن أحمد عبدالحميد غانم (1951-2022) صديقاً حميماً وحسب، بل كان باحثاً وطنيّاً شريفاً كافح من أجل وطن مزدهر ومعافى… وما أكثرَ ما هفا إلى خلاص وطنه المفجوع من أزماته المستفحِلة، واجتهد في تحديد أزماته ومواجعه، وواجَه القوى الحريصة على إبقائها واستِفْحالها معاً، ولَم يكتفِ بإنزال الفلسفة والفكر إلى أرض الواقع، بل حرص على توظيفهما في قراءة مظاهره ووقائعه، رابطاً بين الظّاهرة الواقعيّة وقوانينها الموضوعيّة وتجلّيها بهذا الشكل أو ذاك، وباحثاً عن الآليّة المُجدِية التي تضمن لنا فهمَها وتحليلها بأجلى شكل ممكن.
وقد جسّد من خلال سلوكه العمليّ ما ينبغي أن يكون عليه المثقَّف الوطنيّ النّزيه الذي يهتدي بقيم أخلاقيّة ومثل جماليّة عليا تضمن له أن يُموضِع أحلامَه في تربة الواقع الذي يعيش فيه، ويجني رزقه بيديه، ولا يُضطَّرُّ إلى الانحناء أو الطّأطأة أو تقديم تنازلات عمّا آمن به، وجعله سقفاً له في حياته الفكريّة والعمليّة، وهكذا اضطُّرّ إلى أن يكون النّاشر والقارئ والمصحِّح وعامل الطّباعة والمخرِج الفنّيّ معاً في دار نشره الصغيرة التي أقامها في طرطوس، ووفّرت له الاستقلال الماديّ بشقّ النّفس، وحمتْه من اللُّهاث خلف لقمة العيش المُرّة، في ظلّ تآكُل الرّاتب التّقاعديّ الهزيل الذي كان يتقاضاه، وعدم توافُر منافذ ثقافيّة وطنيّة تتيح لكاتب مثله أن يتفرّغ لمشروعه الفلسفيّ والفكريّ، الذي نذر نفسه لنجاحه وتجذُّره في مجتمعه.
وقد ظلّ مع ذلك منشغلا بمراقبة الواقع الموّار من حوله، والكتابة عنه في صفحته الفيسبوكيّة، منخرِطاَ فيه حتّى العظم، ومترفِّعاً عن الصّغائر، والّلهاث خلف الشُّهرة الخُلبيّة، أو الانخراط في الشّلل الثّقافيّة المهيمِنة، كما أنّه انفتح على الأطياف السّوريّة كافّة، مقدِّماً نفسه نموذجاً للمثقّف الوطنيّ الذي يحترم الآخر، بكلّ ما يحمله هذا المصطلح من ثراء دلاليّ وعمليّ معاً.
وقد آمن بأنّ ذلك لا يمكن أن يتمّ إلا إذا احتفى بالرُّموز الثّقافيّة التي تجسِّد هذا النُّزوع النّظريّ والسُّلوكيّ؛ ولهذا عاد إلى ماضي الفلسفة العريق وحاضرها الرّاهن، ووقف عند شخصيّات فلسفيّة وفكريّة شكّلت منعطفاً مهمّاً في تاريخ الفكر الفلسفيّ العالميّ والعربيّ، فوقف عندها مليّاً، واحتفى ببعض رموزها، وقد أولى اهتمامه للمدوَّنة الصّوفيّة العربيّة بشكل خاصّ؛ وانصرف خلال عقود إلى قراءة المئات من الكتب المنشورة والمخطوطة عن التّصوُّف والمتصوِّفين، وأتيح له أن يُصدِر كتابه الأثير حول هذا الموضوع تحت عنوان (نظريّة المعرفة في التّصوُّف) عن دار الحوار في اللاذقيّة في عام 2017 في (350) صفحة من القطع المتوسِّط.
ويلحظ القارئ لهذا الكتاب أنّه تجنّب الوقوع في أشراك الفقهاء السّلفيّين الذين رفضوا التّصوُّف، ونظروا إليه على أنّه خروج عن الإسلام الحنيف، كما تجنّب الوقوع في إسار من رأى في التّصوُّف نوعاً من الهذيان، وحاول تخليصه من الهالة القُدسيّة التي أُحِيط بها، ونظر إليه على أنّه يمثّل تجربةً فكريّة شديدة الخصوصيّة، وأكّد في كتابه أنّ التّصوُّف شكّل ثورة روحيّة عميقة في الإسلام بتمرُّده على العبوديّة الطّقسيّة التي كرّست كهنوت رجال الدّين، وقدّمه بوصفه ثورةً روحيّة اختزنت فهماً ديموقراطيّاً رحباً للإسلام وعمقاً إنسانيّاً قلّ نظيره، ورأى أنّه شكّل ردّاً على المذاهب الإسلاميّة التي بدأ يُكفِّر بعضُها بعضاً، وعبّر عن وحدة الإسلام في وجه المذاهب المتناحرة التي مزّقته، فتجاوز ضيقَ أفقها، وأخرج الإسلامَ من الحرفيّة النّصيّة المتّصفة بالسّطحيّة والانغلاق والتّحجُّر إلى آفاق رحبة لفهم الكون والعالم.
وقد شكّل التّصوُّفُ، في رأيه، الاستمراريّةَ الأصيلة لثقافة المنطقة الرّوحيّة ذات التّوجُّه التّوحيديّ، ومنهجاً سلوكيّاً ومعرفيّاً جديداً وأصيلا، وكان أساساً ومنطلقاً لفلسفات إنسانيّة وأخلاقيّة كبرى في الغرب والعالم عُدَّت لبَّ الفلسفة الغربيّة الحديثة، وكشفت عن إمكانيّة ارتقاء الإنسان معرفيّاً وروحيّاً إلى مستويات سامية.
وفي ظنّي أنّ صديقنا الرّاحل قدّم في كتابه المذكور نظراتٍ ثاقبة وجهداً خلّاقاً وكبيراً، وقراءة فلسفيّة وفكريّة للفكر الفلسفيّ عموماً، عموديّاً وأفقيّاً، كما أنّه اتّكأ على المصادر الأساسيّة للفلسفة والفكر العربيّ والإغريقيّ والأوروبيّ، وأضاف بعداً جديداً إلى موضوعه، على كثرة ما كُتِب عن هذا الموضوع في مشرق الوطن العربيّ ومغربه.
ويُلاحَظ على مجمل ما كتبه حضورُ الجدل الفكريّ الخلّاق بمعناه العميق، وغيابُ السُّخرية المُبطَّنة أو الظّاهرة عمّن كان يناصبهم العداء، أو يختلف معهم فكريّاً أو أيديولوجيّاً، كما نلحظ غيابَ العنفِ اللّغويّ المكتظّ بعبارات الإقصاء والنّبذ، والانشغال عميقاً بالتّأسيس لمنهج فكريّ رحب ومرن يتّسع للأنا والآخَر معاً، وقد ترك بين أيدينا، قبل رحيله الجزء الأوّل من مشروعه الفكريّ والفلسفيّ الذي حمل عنوان (رؤية فلسفية / ميتافيزيقيّة جديدة في اللّاوجود والوجود والعدم)، والمأمول أن يجد هذا الجزءُ من مشروعه الاحتفاءَ الذي يستحقّه إذا قُيِّض له رؤيةُ النّور قريباً

*ناقد سوريّ

(موقع سيرياهوم نيوز)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

وإنّما أولادُنا بيننا.. أكبادُنا تمشي على الأرضِ … في يوم الطفل العالمي.. شعراء تغنوا بالطفولة

  قد تجف أقلام الأدباء وتنضب أبيات الشعراء ولا ينتهي الحديث عن جمال الأطفال وذكريات الطفولة في عمر الإنسان؛ فالطفولة عالم مملوء بالحب والضحك والسعادة، ...