حسن محمود
حاول الصديق الباحث أحمد غانم في نتاجه الفكري والفلسفي أن يجيب عن التساؤلين الآتيين: الأول، لماذا كانت مشاركة العرب في الفكر الفلسفي العالمي الحديث محدودة أو معدومة؟ والثاني: هل يستطيع مجتمع ما أن يصنع حضارة خاصة به إذا لم يمتلك فلسفة يبني عليها ما يشاء من فن أو ثقافة أو علم أو مدنيّة ؟
و في ظنّي أن الفرد لا يستطيع أن ينشئ فلسفة لأمّة بعينها؛ لأن ذلك يحتاج إلى مجموعة مفكرين ومؤسسات داعمة لهم، ولكن الأستاذ غانم اتّـكأ على رؤية عميقة بادئاً بإصدار سلسلة سمّاها (سلسلة الكنوز الفلسفية) وتوجّه بها إلى الأجيال، وبدأها بأرسطو ذاهباً إلى أنه يمثل ذروة الفكر اليوناني، و قمة يصعب تجاوزها. وقد تناول نتاجه الفلسفي بالشرح والنقد والتوضيح، واختار من نتاجه كله كتابه (سرّ الأسرار) ثم أتبعه بكتاب آخر هو (النّفس). وقد حرص عند تقديمه للكتابين على استخدام مصطلحات يسهل فهمها من قبل المتلقّي العاديّ، منبّهًا إلى ما امتازت به كتب أرسطو من رؤية شمولية للطبيعة والنفس والمجتمع والسياسة والأخلاق والرياضة والوجود بعامة.
ولا بد من الاعتراف أولا بأنّ الإغريق أنشؤوا مذاهب فلسفية متكاملة، فضلا عما كتبوه في حقلي العلوم والمنطق، ولاسيما على يدي أرسطو. وقد نبّه الأستاذ غانم إلى أنّ الدارسين الأوروبيين يصفون الفلسفة الإغريقية بأنها (معجزة)، وهو ما يرشح بأنها نُسِجت من عدم وعلى غير مثال، وينفي في الوقت نفسه مدى تأثرها بغيرها، ويجعلها نوعاً من الأسطورة، وهو ما يتعارض مع العقل، ويخالف المنطق العلمي، ولا تُقرّه قوانين العلم والتطوُّر الاجتماعي، فضلا عن أنه يقع في مطبّ العنصرية والتطرف، وهذا ما جعل الأستاذ غانم ينصرف لمعالجة هذا الموضوع في كتاب آخر سمّاه (العنصرية الغربية والتطرف الإسلامي)، وأراد منه فضح عنصرية الغرب التي أفضت به إلى احتقار الشعوب الأخرى، وحصر العظمة والتقدم العلمي به وحده، ووصف الأمم الأخرى بالتخلف ـ
أما الكتاب الثالث من سلسلة الكنوز الفلسفية فقد أفرده الباحث غانم للحديث عن نتاج أستاذه الدكتور بديع الكسم، وتحدث فيه عن كتابه (البرهان في الفلسفة) الذي كان في الأصل أطروحة دكتوراه نوقشت في جامعة جنيف بسويسرا، ووُصِف صاحبها خلال مناقشة أطروحته بأنه
أعاد (الفلسفة إلى الفكر العربي) بعد أن نأت عنه طويلا، وقد رغب صديقنا غانم في توضيح أن هذا الكتاب يشكل مساهمة عربية خلاقة أثبتت أن العرب قادرون على إثراء العقل الفلسفي العالمي الحديث، والمساهمة في صناعة الثقافة العالمية والفن والعلم والأدب والمدنية على السواء. كما حاول متابعة ما بدأه أستاذه الكسم من خلال تأليف كتاب فلسفي موسوعيّ يكمل مشروع أستاذه، وبستكمل ما وقف عنده، وأنجز منه الجزء الأول، وسمّاه (رؤية فلسفية / ميتافيزيقيّة جديدة في اللّاوجود والوجود والعدم)، وكان على وشك أن يكتب الجزء الثاني لكن القدر عاجله، فرحل دون أن يتاح لمشروعه الاكتمال.
ولابدّ من الإشارة إلى أن الجزء الأول المنجز من هذا المشروع والذي لايزال مخطوطاً يعالج قضايا ومشكلات فلسفية عديدة مجترحاً منهجًا جديدًا في معالجته لها، ومصحِّحا الكثير من المفاهيم الخاطئة التي استقرت في الأدبيات الفلسفية منذ قرون، وهو يتناول، في كتابه، الوجود وكيف نفهمه، كما يناقش دور اللغة والفكر في الكشف عن الوجود، وأهمية الميتافيزيقيا في العلم، كما يعيد النظر في المصطلحات التي أسيء استخدامها ذاهباً إلى أن العدم قضية زائفة، ومؤكداً على ضرورة التوحيد بين مفهومي اللاوجود والعدم، ومنبِّهاً إلى أن الجمع بينهما خطأ معرفي وقع فيه كثيرون من الفلاسفة، ومبرهناً أن اللاوجود هو مصدر الوجود، ولذلك يناقش بعمق الفهم الخاطىء للزمن عند الفلاسفة والعلماء على السواء، ويضع حدًّا فاصلا بين (الوجود بذاته) و(الوجود لذاته)، ويوضِّح مفهوم الوجود، وقانون الصيرورة، والتعالي، والضرورة، والحتمية، والكلية والموضوعية…وغيرها من المفاهيم والمصطلحات التي فهمها آخرون على نحو مغاير، واستثمروا مفاهيمها استثماراً خاطئا في بحوثهم وتحليلاتهم.
وفي ظنّي أن الكتاب المشار إليه يمتلك أهمية كبرى في حقل الفلسفة تضارع الأهمية التي تمتلكها (مقدمة ابن خلدون) في حقل علم الاجتماع، وعسى أن يطبع قريباً ليتاح لمحبي القراءة والاطلاع اكتشاف ما قدّمه صديقنا الراحل في كتابه من اجتراحات علمية ومفاهيمية تجعله أحد باحثينا الكبار الذي ينبغي علينا الاطلاع على ما كتبوه، ووضعه في سياقه التاريخي الذي يستحقه بجدارة.
*ناشط ثقافيّ
(سيرياهوم نيوز ٣)