آخر الأخبار
الرئيسية » تحت المجهر » حروب الليبرالية الحديثة… بين العسكرة والسيطرة الاقتصادية

حروب الليبرالية الحديثة… بين العسكرة والسيطرة الاقتصادية

شهد مفهوم الحرب العسكرية بعد عام 1989 تحولات عميقة ترتبط مباشرة بالنظرة التقليدية للدور الوظيفي الذي تلعبه الجيوش وتباعاً في المفهوم والدوافع التي تحرك الحروب وهذه التحولات تعود في الأساس إلى اعتماد الولايات المتحدة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي نظرية ليست جديدة تاريخياً ذات حوامل سياسية واجتماعية واقتصادية وعسكرية مختلفة تختصر بكلمة “النيوليبرالية” أي الليبرالية الحديثة وهي نظرية تقرأ العالم وفق معطيات الجغرافيا الاقتصادية بدل الجغرافيا السياسية حيث تتقدم فيها الثروات ومعطيات السوق على مفاهيم القومية والسيادة والانتماء الوطني.

ولعل البحث في ديناميكيات التدخل العسكري “النيوليبرالي” خلال الثلاثين سنة الماضية من قبل الولايات المتحدة وحلفائها يخلص إلى أن الحروب التي شنها هذا التحالف منذ ذلك الحين تشكل خروجاً عن نمط التدخلات العسكرية السابقة حيث أوكلت للقوة العسكرية مهمة تتجاوز تدمير جيش الدولة الخصم وقدراتها العسكرية وصولاً إلى وضع الأرضية الضرورية “عبر ثلاثية التدخل.. التدمير.. البقاء” لإعادة صياغة المنظومات الثقافية والاجتماعية والعقائدية في الدول المستهدفة بهدف تهيئتها تدريجياً لتقبل التحول الكامل إلى مجرد أسواق مفتوحة أمام الطاقة الاستثمارية للشركات متعددة الجنسيات.

على سبيل المثال لا الحصر يكشف تحليل وثائق تعود لفترة رئاسة جورج بوش الابن وباراك أوباما حول أفغانستان والعراق أن التدخلات العسكرية في كلا البلدين ذهبت إلى حد تسخير الماكينة العسكرية المحتلة للتدخل في عمليات “إعادة الإعمار” الأولية وتسخيرها كلياً لخدمة الاقتصاد الأمريكي النيوليبرالي عبر مرحلتين متسلسلتين تتكرران على مدى سنوات الاحتلال هما.. السيطرة العسكرية والإغراق الاقتصادي بهدف فرض “النموذج النيوليبرالي” والذي ينتهي بإعادة صياغة كلية للهياكل الاجتماعية والاقتصادية للدولة المستهدفة وربطها بالمنظومة النيوليبرالية العالمية.

هذا النوع من “الفرض العنيف للنيوليبرالية” في العراق وأفغانستان كما يصفه عدد من الباحثين المختصين مثل ديفيد هارفي وإيمانويل والرشتاين يشكل المثال الأوضح للديناميكيات التي استخدمت في مجمل الحروب النيوليبرالية التي شنتها الولايات المتحدة خلال ثلاثين سنة مضت والتي بدأت في التسعينيات في بنما وهاييتي والبوسنة حيث شهدت جميع هذه الدول عمليات سيطرة سياسية واقتصادية تلت التدخل العسكري تجلت في الخصخصة وإلغاء القيود الجمركية على المستوردات ما أدى إلى تراجع الإنتاج المحلي وزيادة الاستهلاك وسيطرة ما يسمى الاقتصاد الوهمي “المالي” على حوامل الاقتصاد الحقيقي المتمثلة بالمؤسسات الإنتاجية وهذه الإجراءات مجتمعة ليست سوى تعبير عن التحولات النيوليبرالية التي تريدها الطبقة الرأسمالية العابرة للحدود يكون فيها التدخل العسكري “مباشرة أو بالوكالة” وسيلة لإحداث تغييرات مؤسسية وثقافية واقتصادية واسعة في البلدان التي تعتبر خارج نطاق العولمة الاقتصادية النيوليبرالية.

وبالنسبة للشرق الأوسط ووفق الباحث ميشيل شوارتز في كتابه “النيوليبرالية العسكرية.. حروب وأزمات إنسانية بلا نهاية في القرن الواحد والعشرين” 2011 فقد شنت الحروب لأجل هدف أساسي هو “فتح الأسواق” معززاً استنتاجه هذا بما نصت عليه وثيقة لمجلس الأمن القومي الأمريكي عام 2006 تتحدث عن السعي لـ “شرق أوسط من الدول المستقلة في سلام مع بعضها البعض والمشاركة الكاملة في سوق عالمي مفتوح للسلع والخدمات والأفكار”.

وعملية “فتح الأسواق” هذه وفق شوارتز تتضمن عند تطبيقها افتراض التحول الاقتصادي الذي يتطلب تغييراً عميقاً وجوهرياً في الطريقة التي تدير بها هذه البلدان حياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

وما يمكن ملاحظته في كل ما تكشف من سياسات “ناتوية” منذ تفكك الاتحاد السوفييتي هو أنه حتى عام 2001 كانت محاولات “فتح الأسواق” وإدخال النطاق الكامل للمنظومة النيوليبرالية تتم من خلال عملية العولمة الاقتصادية.. ولا سيما دخول الاستثمار المباشر من قبل الطبقة الرأسمالية العابرة للحدود الوطنية أو عبر ممارسة ضغوط سياسية واسعة من الدول الأساسية في النظام العالمي وخاصة الولايات المتحدة على الدول المستهدفة للقيام ذاتياً بتطبيق التحولات الهيكلية التي تنسجم مع متطلبات العولمة النيوليبرالية.

لكن وثيقة مجلس الأمن القومي الأمريكية لعام 2006 إضافة إلى ما صرح به القائد السابق للقوات الأمريكية في العراق وأفغانستان والمدير الأسبق لوكالة المخابرات المركزية ديفيد بترايوس عام 2009 خلال شهادته أمام الكونغرس.. تكشف عن الدور المضخم الذي منح للقوة العسكرية “الجيش الأمريكي” في تنفيذ هذه العملية الاقتصادية لتكون محور عملية التحويل القسري للمنطقة باتجاه الدخول في المنظومة النيوليبرالية على الأقل في الشرق الأوسط إذ يعتبر منظرون هذا الاتجاه من سياسيين واقتصاديين وقادة عسكريين أن العمل العسكري يجب أن يفضي إلى فرض حكومات يقع ضمن مهامها التحول الاقتصادي والاجتماعي النيوليبرالي بما يتلاءم مع الجهود المستمرة منذ عقود لنشر النيوليبرالية إلى أبعد المناطق في الشرق الأوسط والعالم.

وهذه العملية تتضمن ما يطلق عليه اسم “السيادة المشتركة” وهي سياسة جديدة مبتكرة اقترحها ستيفن كراسنر مدير تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأمريكية بين عامي 2005 و2007 وتعتبر أن السيادة المشتركة ستكون إضافة واعدة إلى مجموعة الخيارات السياسية المتاحة أمام الحكومة الأمريكية حيث يتم إنشاء كيانات “السيادة المشتركة” بموجب اتفاق طوعي بين السلطات السياسية المحلية المعترف بها وفاعل خارجي مثل دولة أخرى أو منظمة إقليمية أو دولية ويمكن أن تقتصر هذه الترتيبات على مجالات معينة مثل السياسة النقدية أو إدارة عائدات النفط.

ومنذ ذلك التاريخ أضيف إلى مفهوم الحرب العسكرية فكرة “السيادة المشتركة” كعنصر إضافي ضمن الدور المرسوم للجيش الأمريكي “والوكالات المدنية المرتبطة به” حيث تم تكليفه بمهمة إنشاء نوع جديد من الحكومة المشتركة “مع الحكومة المحلية المنصبة بعد العمل العسكري” على مختلف المشاريع التي من شأنها أن تعمل على تفكيك مقومات البنية الاجتماعية والاقتصادية للدول المستهدفة وبناء نظام جديد يتلاءم ويندمج مع العولمة النيوليبرالية.

يكشف كل ما سبق أن العولمة النيوليبرالية لن تتوقف عن تغيير أنماط توسعها واختراقها للمجتمعات والدول كسبيل لتحقيق مصالح رأس المال العالمي الذي تتحكم به وتسيطر عليه الشركات العابرة للحدود مرة بالحرب وأخرى بالضغوط ولن يقف في طريقها سوى الدول القوية ذات المؤسسات الراسخة والتي تمتلك القدرة والديناميكات المضادة المناسبة للرد على هجمات النيوليبرالية وحماية قرارها السيادي الاقتصادي والسياسي وأيضا من خلال تماسك المجتمع وتمسكه بمنظومته العقائدية الأصيلة.

 

سيرياهوم نيوز 5 – سانا

x

‎قد يُعجبك أيضاً

المعترضون على التفاوض هل يريدون استمرار الحرب؟

ندى أيوب     لوهلةٍ يبدو نواب لبنانيون وكأنهم يفضّلون استمرار الحرب الإسرائيلية على لبنان على التوصّل إلى اتفاقٍ لوقفِ إطلاق النار على يد رئيس ...