بيروت حمود
تمثل إسرائيل، اليوم، أمام «محكمة العدل الدولية» في لاهاي، للنظر في الدعوى التي رفعتها ضدّها جنوب أفريقيا، وتتّهمها فيها بارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة، والتي من المحتمل أن تفضي إلى إصدار أمر قضائي يطالبها بالتعليق الفوري لعملياتها العسكرية في القطاع. وكان موقع «واينت» نقل عن مستشار الأمن القومي الإسرائيلي، تساحي هنغبي، قوله إن «إسرائيل وقّعت على اتفاقية مناهضة الإبادة الجماعية منذ عقود، وبالتأكيد لن نقاطع النقاش في المحكمة»، و«(إنّنا) سنواجه وسنردّ الدعوى العبثيّة التي تشكّل مؤامرة دموية». وأضاف: «عانى الشعب اليهودي أكثر من أيّ أمّة أخرى من الإبادة. لقد ذُبح ستة ملايين من شعبنا بقسوة…. استُخدمت قسوة مماثلة ضدّ مواطني إسرائيل في مجزرة 7 أكتوبر، إلّا أنّنا هذه المرّة لدينا القدرة على الدفاع عن أنفسنا ضدّ أولئك الذين يسعون إلى تدميرنا»، معتبراً أن الادّعاء «لا أساس له»، وأنه «ضدّ حق الضحية في الدفاع عن نفسها، ما يُشكل وصمة عار. نتوقّع من جميع الدول المتحضّرة أن تتعاطف معنا».وأتى القرار الإسرائيلي بالمثول، على إثر مناقشات جرت أخيراً في إطار مؤسّسة الجيش، ووزارات الخارجية، والأمن، والقضاء. وفيما قد تستمرّ جلسات الاستماع ما بين أربع وست سنوات، تتركّز جهود إسرائيل، اليوم، على «إحباط إصدار أمر مؤقّت قد يجبرها على وقف إطلاق النار»، وفق الموقع نفسه الذي ذكر أن تل أبيب «ستستخدم أدوات الضغط الدبلوماسي لتعبئة الدول ضدّ جنوب أفريقيا». وكان رئيس «الشاباك»، رونين بار، أوصى رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، والسلطة القانونية، بتقديم أدلّة إلى المحكمة، تدّعي بأن «ثمّة علاقة بين حماس ووكالة الأونروا»، وذلك في محاولة لـ«إحراج الفلسطينيين، والأمم المتحدة التي تُعد الوكالة (العدل الدولية) إحدى مؤسّساتها». وتقوم الادّعاءات المذكورة، على أن «قسماً من مقاتلي حماس الذين شاركوا في هجوم (طوفان الأقصى) هم موظفون في الأونروا، وأن مباني الأخيرة استُخدمت لأغراض إرهابية، فضلاً عن أن مناهجها الدراسية تحتوي مضامين تحريضية». ووفقاً لإذاعة الجيش، فإنه «على الرغم من مناقشة الاقتراح، من غير الواضح ما إذا كانت إسرائيل ستستخدمه في لاهاي».
من جهتها، اعتبرت وزارة الخارجية الإسرائيلية ما ورد في دعوى جنوب أفريقيا «ادّعاءات تفتقر إلى أساس واقعي وقانوني، وتشكّل استغلالاً وضيعاً ورخيصاً للمحكمة»، فيما قال مسؤول إسرائيلي رفيع، لوسائل إعلام عبرية، إن «إسرائيل لن تغيّر أو تلغي عملياتها في غزة تحت وطأة التهديد القضائي»، زاعماً أن «كلّ العمليات التي تم تنفيذها حتى الآن في إطار القتال، تمّت بناءً على مشورة قانونية». وكشف أن «إسرائيل تدرس إمكانية تقديم دعوى مضادّة لمحكمة العدل الدولية ضدّ جنوب أفريقيا أو إيران».
أيّ قرار سيصدر، سيكون له صدى دولي واسع ضدّ إسرائيل وعواقب لا يمكن توقّعها
ولتمثيلها أمام المحكمة، اختارت إسرائيل الخبير البريطاني في القانون الدولي، البروفيسور مالكولم شو، الذي عمل سابقاً، وفق ما ذكرت «هآرتس»، محاضراً زائراً في الجامعة العبرية في القدس، ومحاضراً زائراً في مركز «لاوتر باخت» للقانون الدولي التابع لجامعة «كامبريدج»، وهو عضو في مجلس أمناء المعهد البريطاني للقانون الدولي. وإلى شو، اختارت إسرائيل، بقرار من نتنياهو، والمستشارة القضائية، غالي بهاراف -ميارا، القاضي ورئيس المحكمة «العليا» الأسبق، أهارون باراك، علماً أن الأخير ليس جزءاً من طاقم الدفاع. ولأن اليمين الإسرائيلي قد شنّ عليه هجوماً طوال السنة الماضية لموقفه من «الانقلاب القضائي»، شكّل قرار نتنياهو «مفاجأة»، وفي الوقت نفسه اعترافاً «بقيمة باراك نظراً إلى المكانة المرموقة التي يتمتّع بها في الحلبة القانونية والعالمية وأمام محكمة العدل الدولية خصوصاً».
ووفقاً لموقع «زمان إسرائيل»، فإن المحكمة قد تصدر قراراً «بإيحاء من عقيدة التوازنات، التي وضعها باراك، ليفضي من جهة إلى وقف العمليات العسكرية التي تنطوي على مخاوف حقيقية من انتهاكات لمعاهدة منع الإبادة الجماعية، ومن الجهة الأخرى، لا يلوي ذراع إسرائيل أو يضعها تحت تهديد فرض عقوبات عليها»، في إشارة إلى أن مهمّة باراك ستتركّز على منْع صدور قرار من شأنه فرض عقوبات دولية على إسرائيل. والتوقعات السائدة في دولة الاحتلال، بحسب الموقع، هي أن تقبل المحكمة الدعوى، وتصدر قراراً احترازياً بوقف الحرب بشكل فوري، نظراً إلى توفّر «دليل أوّلي» على أن الحرب (إن استمرت) قد تفضي إلى إبادة جماعية بحقّ الفلسطينيين، وهو «ما سيكون من الصعب على إسرائيل تفنيده»، إثر الوقائع التي قدّمتها جنوب أفريقيا، ومن بينها العدد الهائل من الضحايا المدنيين الفلسطينيين، وتصريحات قادة الحرب، «التي تدعم الاستنتاج بأن إسرائيل تنتهك بشكل سافر معاهدة منع جريمة الإبادة الجماعية».
مع ذلك، ذكر الموقع أن التقديرات الإسرائيلية خلصت إلى أن «موقف جنوب أفريقيا سيضعُف في مرحلة لاحقة من نظر المحكمة في الدعوى»، وهي تقديرات وصفها الموقع بأنها تعبّر «عن عدم اكتراث»، خصوصاً أن «الدعوى من الناحية القانونية تبدو مقنعة جداً». وقد تقرّر المحكمة الدولية، وفق الموقع، أن إسرائيل «لم تنفّذ عمليات من شأنها أن تقود إلى إبادة جماعية، وإنّما هي متهمة فقط بارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضدّ الإنسانية»، ما يعني، بحسبه، أن «استنتاجاً كهذا لن يكون له مفعول قانوني، لأن جرائم كهذه لا تشملها المعاهدة التي تستند إليها الدعوى. ومع ذلك، أيّ قرار سيصدر، سيكون له صدى دولي واسع ضدّ إسرائيل وعواقب لا يمكن توقّعها».
أهارون باراك: خشبة إسرائيل الغريقة
لو كان في الإمكان اختصار ما قدّمه القاضي والرئيس الأسبق لـ«المحكمة العليا» الإسرائيلية، أهارون باراك، لإسرائيل، على مدى عقودٍ طويلة، لأمكن القول إنه وفّر «الحامية» والغطاء والأدوات التي ضمنت استمرارها كنظام استعماري شرعي ومقبول؛ إذ منحها، في كثير من الأحيان، الضوء الأخضر لمواصلة سياساتها الإحلالية والاحتلالية ضد الفلسطينيين، من خلال تفسيراته وقراراته القانونية، على رغم اتهام «معكسر المؤمنين» الحاكم له بأنه «يساري».
يُنظر إلى باراك، المولود في ليتوانيا عام 1936، بصفتهِ «ناجياً من أكبر إبادة جماعية لحقت باليهود على أيدي النازيين»، وهو الذي هاجر وعمره تسع سنوات إلى فلسطين المحتلّة، قبل عام واحد من النكبة. وشغل باراك العديد من المناصب، بينها المستشار القضائي للحكومة في السبعينيات، وعضوية فريق التفاوض الذي توصّل إلى اتفاقية «كامب ديفيد»، وعضوية لجنة التحقيق في مجزرة صبرا وشاتيلا في الثمانينيات، قبل أن يصبح لاحقاً قاضياً في «العليا»، ثم نائباً لرئيسها، ورئيساً لها في عام 1995. وعلى إثر تقاعده، نشر سلسلة من الأحكام، بينها سوابق قضائية، تضمّنت دفع تعويضات للفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة. ونتيجة لبعض قراراته التي لا يمكن اعتبارها منّة على الفلسطينيين، بل حقاً أساسياً لهم، حوّل باراك «المحكمة العليا» إلى حصن الاحتلال في وجه دعاوى عدّة رُفعت ضدّ إسرائيل في العالم.
لم يكن استعداد باراك لتمثيل إسرائيل في المحكمة الدولية ضدّ جنوب أفريقيا مستغرباً، حتى في ظلّ الهجوم اليميني عليه، فهو قاضٍ يهودي صهيوني، مؤيّد لغالبية سياسات الاحتلال، وأحد أشدّ المناضلين من أجل الحفاظ على التناقض القائم في هوية إسرائيل كدولة «يهودية وديموقراطية في آن واحد». وهو كأيّ صهيوني قبل أن يكون قاضياً، منح الأمن المكانة العليا فوق كل شي، وفوق حقوق الإنسان، كما ظهر في المسوّغات القانونية التي من خلالها منح الأجهزة العسكرية والأمنية الإسرائيلية الحقّ في الممارسات الاحتلالية بحجّة الأمن.
وعلى رغم ذلك، يحظى باراك بشرعية دولية ومكانة مرموقة عالمياً كقاضٍ، نظراً إلى تدخّله في قضايا لمصلحة الفلسطينيين، كانت في معظمها حول دعاوى في شأن أراضٍ بملكية فلسطينية خاصة، غير أن موقفه من الاستيطان بالمجمل، كان عبارة عن «عجن» القانون الدولي الذي يَعتبر الاستيطان في الأراضي المحتلة جريمة حرب، لملاءمته مع قالب المصالح الأمنية الإسرائيلية العليا. وإضافة إلى ما تقدّم، صاغ باراك مفهوماً ضبابياً حول سياسة الاغتيالات الإسرائيلية، فهو لم يمنعها بل اعتبرها مسموحة، ولكن ليس في جميع الحالات، موجداً لها المسوّغات القانونية والتي يقع الأمن الإسرائيلي في صلبها أيضاً، على رغم أنها قد تنتهك في حالات كثيرة حقوق الإنسان «التي يُعد أحد مناصريها».
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية