يغالب القادة الإسرائيليون الواقع، مظهرين تخبّطاً وتضارباً ما بين تصريحات عالية السقف، وأخرى واقعية، وثالثة خيالية، قد يكون قائلها شخصاً واحداً. قبل نحو شهرين، قال وزير الأمن، يوآف غالانت، في كلمة في مركز قيادة القوات الجوية في تل أبيب، إن «العملية البرّية» في غزة ستستغرق ما يصل إلى 3 أشهر. وأضاف أن هذا الهجوم يجب أن يكون «الأخير»، لأنه «في النهاية لن تبقى حركة حماس موجودة». أما المتحدّث باسم الجيش، فقال حينها إن «المستوى السياسي في إسرائيل حدّد أهداف العملية البرية، وهي القضاء على حماس وإعادة من وصفهم بالمخطوفين». وعلى هذا، انطلقت الحرب، بكل زخمها وقوتها، وما رافقها من جرائم وحشية، وصولاً إلى اليوم، حيث بعد مرور حوالي شهرين على انطلاق «المناورة البرية»، لم يتمكّن العدو بعد من تحقيق أي هدف من الهدفين المعلنين؛ إذ «حماس» لا تزال حاضرة وممسكة بالميدان، والأسرى منهم من قُتل ومنهم من لا يزال لدى المقاومة، ولم يتمكن العدو من تحرير أي واحد منهم. وليس ذلك فحسب، بل تلقّى الجيش ضربات قاسية في الميدان الغزّي، حيث قُتل عدد كبير من ضباطه وجنوده، فيما اليوم، ينتقل – بخجل – من المرحلة الثانية من الحرب، إلى الثالثة، الأقل زخماً وكثافة. وفي وقت سابق، كان الجدال في الكيان حول توقيت هذا الانتقال محتدماً؛ فبينما رأى بعض السياسيين ضرورة تحديد مواعيد زمنية واضحة للانتقال، اعتبر آخرون، ومنهم القادة الأمنيون، أن دخول مرحلة جديدة لا يتمّ إلا بعد تحقّق أهداف سابقتها. لكن، الذي حدث بالفعل، هو تمديد المرحلة الثانية قدر الإمكان، بحثاً عن أهداف حقيقية، من دون جدوى، ما حتّم الانتقال إلى المرحلة الثالثة في شمال قطاع غزة، ووسطه، بصورة مشوّشة وبإنجازات ناقصة ومشوّهة. وهذا ما تُرجم بقيام المقاومة بإطلاق صواريخها من شمال القطاع في اليوم نفسه الذي انسحبت فيه القوات الإسرائيلية منه، وكذلك في المنطقة الوسطى انطلاقاً من مخيم البريج. فما الذي يعنيه ما تقدّم؟يسعى العدو، الآن، إلى تثبيت قواعد القتال في المرحلة الثالثة المزعومة؛ فهو حين انطلقت صواريخ المقاومة من شمال غزة، عاد ودفع بقواته إلى هناك، ونفّذ عمليات ضد المقاومين، وحاول الوصول إلى منصّات الصواريخ. وكذلك فعل عندما انطلقت الصواريخ من مخيم البريج في الوسطى، حيث عاد وأدخل قواته، وادّعى أنه وصل إلى منصّات الصواريخ التي انطلقت قبل يوم. وفي خانيونس جنوباً أيضاً، طبّق شيئاً مشابهاً، عندما أطلق المقاومون صواريخ في اتجاه الغلاف من جنوبي مدينة خانيونس، حيث خرج المتحدث باسم جيش العدو ليعلن أن الجيش وسّع عملياته في المنطقة نفسها، لتدمير «كتيبة من حماس تطلق الصواريخ على الغلاف». إذاً، سيكون العدو – في المرحلة الثالثة – مُلزماً بإعادة إدخال قواته إلى داخل غزة، كلّما تعرّضت قواته أو مستوطناته لتهديد من داخل القطاع، أو كلّما وجد هدفاً يتعلّق بقادة المقاومة أو قدراتها التسليحية.
تنشط الولايات المتحدة في محاولة إيجاد صيغة مناسبة لإنهاء الحرب
أما من جهة المقاومة، فهي في المقابل تحاول تثبيت قواعدها للقتال في هذه المرحلة. وبإطلاقها صواريخ من المناطق التي انسحب منها العدو لتوّه، هي تريد التأكيد أن انسحاب الجيش الإسرائيلي من القطاع، لا يعني وقف الحرب، وأن المستوطنين لن يعودوا إلى مستوطنات «الغلاف»، إلا باتفاق حقيقي وشامل يتحقّق معه وقف إطلاق نار كامل. بتعبير آخر، تؤكد المقاومة أن الصواريخ لن تتوقّف عن الانطلاق من كل موقع في غزة، طالما العدو ينفّذ أعمالاً عسكرية عدائية، أياً كان شكلها.
في هذا الوقت، تنشط الولايات المتحدة في محاولة إيجاد صيغة مناسبة لإنهاء الحرب، على قاعدة الحدّ من الخسائر أولاً، ومحاولة تجيير نتائجها لتحقيق مكاسب سياسية حقيقية ثانياً. ولذا، تسعى واشنطن إلى تحقيق التطبيع السعودي – الإسرائيلي، بعد الحرب، وهو ما سيُعتبر مكسباً لها، وكذلك لتل أبيب. لكنّ الرياض، التي لا تمانع التطبيع، تطالب بأن يكون هذا ضمن مسار سياسي مضمون، ترعاه الولايات المتحدة، ويقوم على أساس «حلّ الدولتين»، على أن تساهم المملكة وحلفاء آخرون في إعادة إعمار قطاع غزة، وهو ما تلقّفه وزير الخارجية الأميركي سريعاً، وطار به إلى إسرائيل، حيث رفض نتنياهو كل ما فيه. ويحافظ نتنياهو على موقفه السلبي من مسألة «حل الدولتين»، وهو أصلاً يرفض إيقاف الحرب، كما وبحث مسألة اليوم التالي، خشيةً من انقلاب حلفائه في اليمين المتطرّف عليه. وقال نتنياهو، في تصريحات أمس، إن «رئيس الوزراء في إسرائيل قادر على قول لا عند الضرورة – حتى لأصدقائنا المقرّبين»، مضيفاً: «لا يمكن أن أسمح بقيام دولة فلسطينية ما دُمت في منصبي». وتابع أن «إسرائيل تحت قيادتي لن تتنازل عن تحقيق نصر مؤزّر على حماس ولا يمكن التشكيك في ذلك»، و«أننا سوف نواصل القتال بكل قوة حتى تحقيق أهدافنا من خلال العمل العسكري»، مشيراً إلى أن «الانتصار الحاسم في الحرب يعني عودة المحتجزين والقضاء على حماس».
وبعد وقت قصير من ذلك، أعلن «البيت الأبيض» أن «أميركا لن تتوقّف عن العمل على تحقيق حل الدولتين»، وأنه «ستكون هناك غزة ما بعد الصراع ولن يُعاد احتلالها». وبحسب «القناة الـ 13» الإسرائيلية، فإن «مسؤولين بارزين في إدارة بايدن وبّخوا الإسرائيليين بسبب استمرار ارتفاع عدد القتلى المدنيين (…) وإن إحصاءاتهم تشير إلى مقتل 150 مدنياً يومياً في غزة (…) رغم الانتقال إلى مرحلة أقلّ كثافة».
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية