قلّما يخلو مركزٌ ثقافي من الاحتفاء بأكثر من فعالية شعرية على وجه التحديد في الأسبوع.. فعاليات شعرية لا تُعد في طول البلاد وعرضها، وصفحاتٍ مفعمة بالكثير من الكتابات على وسائل التواصل الاجتماعي تدّعي جميعها أنها تكتبُ الشعر..
فعاليات وكتابات لـ”كتّابٍ” من أجيالٍ مختلفة.. وبغض النظر عن جودة ما يُقدّم من ما يطلق عليه على أنه “شعر”.. حيث الكثير منه ولاسيما الموزون العمودي الذي في جلّه لا يعدو أن يكون “نظماً” وحسب، أو خواطر تدّعي أنها قصيدة نثر.. غير أنه، وعلى ما يبدو لا يزال الشعرُ يجري في دم الأجيال الجديدة، ذلك الشعر الذي جرى في دم آبائهم وأجداهم..
عن إيقاع الشعر ووقع القصيدة في وجدان أجيال اليوم كتابة وقراءة..اختارت “تشرين” مجموعةً من الشباب الشعراء لمعرفة دوافعهم واحتياجاتهم ووجهة نظرهم نحو شعر اليوم وضرورته.
منصور سليمان: مازال في ميدان الشعر فرسان
والبداية كانت مع الشاعر منصور سلمان وهو خريج ماجستير تأهيل وتخصص- جامعة دمشق، وبالنسبة له لا يستطيع أن يقول إن الشعر اليوم قد مضى أهله وانقضى زمنه، وفي الوقت ذاته هو ليس في أوج جلاله وعزّ كماله.. لكن يستطيع القول إنه مازال في الميدان فرسان، ولم تعدم رايات القوافي حاملاً لها، ولا متحدّياً هجمات الحداثة المزعومة التي بدأت تظهر آثارها في انقباض ظلال الشعر الحقيقي، وانتشار الخواطر والقصائد النثرية التي إن قُرئت على منبر الشعر كانت كحبّة المنوّم مع الأسف… ويَنقُد هذا الشاب بعض المنابر الثقافية التي درجت فيها عادة التّقديم غير المنطقيّة في الأمسيات، حيث تَشرَع المقدّمة بتعابير جماليّة وألفاظ رائقة واصفة مَقدِرة المشارك فنشعر بأن المتنبي سيعتلي المنبر ثم تكون المفاجأة…! وعن رأيه بجماهيرية الشّعر اليوم يقول لنا منصور الذي يَعد نفسه ابن الواقع: لا بدّ من الاعتراف بأن الظّروف القاسية الرّاهنة، التي قد أرهقت الأبدان وأحرقت القلوب وبعثرت الأذهان في كلّ الجهات كان لها دور بارز في تقليص جمهور الشعر، إضافة إلى أنّ الكثير من جيلنا يتّجه بوعي أو بلا وعي إلى الكتابات النثرية والخواطر القصصية، وأرجو أن يعود للشعر شأنه الخطير وعِزّه الكبير وتأثيره المثير، وإليكم مما نَظمُ منصور الذي يميل نحو كتابة الشعر الموزون:
“هذي.. ترانيمُ الشُّعورِ
لهبٌ.. يسيلُ على السّطورِ
نَغمٌ .. تُترجمُه الجِراحُ
قصائدَ .. بلطيفِ نُورِ
مَطَرٌ …. تُخامرُهُ الحياةُ
بكلِّ ….أسرارِ العبيرِ ”
هند البقاعي: عندما أنتهي من كتابة شيءٍ ما أشعر بأنني تنفّست من رئة ثالثة
وفي اتجاهٍ مفارق عن زميلها الشاعر منصور سلمان الذي ذهب صوب النظم على القوافي، فالشاعرة هند البقاعي وهي طالبة أدب عربي تُفضّل قصيدة النثر، وبرأيها أنّ الشعر كان ومازال مرآة المجتمع التي تعكس مشاكله وتضع الضماد اللطيف على الجروح، وعن وَقْع النصوص في وجدانها تقول لـ(تشرين): عندما أنتهي من كتابة شيءٍ ما ثمّ أقرأه أشعر بأنني تنفّست من رئة ثالثة لا مرئية، تَمسح القصيدة على جبهتي وتُربّت على كتفي، أما بخصوص ما أقرؤه من نصوص أخرى لغيري فأحاول أن أشعر بما يجول في أعماق الآخرين، فالإنسان لا يكون إنساناً إلّا عندما يشعر بغيره، ومن جهتي متأثّرة جداً بكلّ ما كتبه بمحمود درويش ومظفر النواب والجواهري والماغوط.. وتعدّ هند أنهم مظلومون بالفن عن الباقين والأدب أحد فروع الفن الذي يحتاج إلى التقدير والاهتمام والدعم المادي والمعنوي، وتقول ختاماً: تاجروا بكلّ شيء واتركوا لنا الفن كي يحتضننا، ومما كتبت نقرأ:
“أخاف الخطوط الحمراء،
أخشى أن أتعدّاها
اتأمل الفراغات بين أصابعي
وأغرق في البكاء..
أنا نصفُ امرأة
تتوسّد الجدار
تلهو
ترقص
تُخطي
ثمّ تشرب الندم”
وقبل أن نذهب إلى نموذج ثالث من الشباب نقف عند سرٍّ من الأسرار الأدبيّة والتي أفصح لنا عنها نائب رئيس اتحاد الكتاب العرب توفيق أحمد فيقول: عند إقامة معارض في كل المحافظات السورية يكون الشّعر هو الأقل مبيعاً، ونحن عندما أحصينا المبدعين في سورية لاحظنا أن العدد الغالب منهم هم ممن يكتبون الشعر.. وأنا شخصياً من أميل الناس لحالة الشعر بكلّ فنونه الكتابية، وما زلت مقتنعاً أن الشعر ديوان العرب ليس لأني أحبّه بل من تجربة عمليّة لي سوريّة وعربية إعلامية وثقافية لسنوات طويلة، ويُضيف: لكن قد يسيء للحالة أنّ الذين يكتبون الشعر لهم الغلبة كعدد وهذا يحيلنا إلى الجودة الفنية التي يكتبون فيها، الحقيقة هناك مشكلة بالجودة الفنية والاستسهال أيضاً…
محمد النعسان: يأتي الشعر على هيئة قارب نجاة من هذا الغرق
وفي هذا الاستطلاع قد يبدو النموذج الثالث من عالم آخر بعيد عن الشعر إلا أنّه يميل له وللكتابة النثرية خصوصاً، فمحمد النعسان هو خريج كلية الهندسة وبرأيه أنّ الشعر يبدأ بشعور أو حالة يعيشها الإنسان في داخله تُسبب غرقاً في الأفكار وفوضى في التفكير فيأتي الشعر على هيئة قارب نجاة من هذا الغرق، ويعيد ترتيب الأفكار بسلاسة لا متناهية، وهو يكتب لنفسه أولاً، ولكل من يقرأ ثانياً، ولكل من يؤمن ببصمات الكلمة في حياته، ويَعتَقدْ أن ما ينقصنا هو القرّاء للشعر وليس الكُتّاب حيث إن القراءة هي الحجر الأساس لأي معرفة، ومن ثمّ الشعر هو معرفة إبداعية تبدأ بالقراءة كذلك… ومما كتب نقرأ:
“كثيرٌ غيابُكِ
لا أستطيع جمعهُ بيديَّ المُهترئتين ..
طويلٌ غيابُكِ
أكبر من مقاسي..
والحزنُ الذي ينسلُ منهُ
أعرضُ من كتفيَّ بنُمرتين..
فتراني مكدّساً على النوافذ
أذرفُ الشوقَ بين ضفّتين..
ثقيلٌ جداً غيابك
خفيفٌ جداً غيابك
كالشّعرةِ التي قسمت ظهرَ البعير ..”
رغد سروجي: الشاعر الحقيقي سيغزوه الشعر في كلّ فكرة
ونختم مع رغد سروجي التي تدرس في قسمي اللغة العربية والترجمة وتتطلّع لكتابة الشعر الموزون إلّا أنها حالياً تكتب القصّة القصيرة وشعر التفعيلة فقط، وهي تنظر إلى الشعر اليوم على أنه بخلاف الأزمنة السابقة التي كان الشعر فيها يلتحف الألسنة كلّها، فهو بات يقتصر على محبّيه ومن شغفهم حبّه، فضلاً عمّن يعشق اللغة العربية، وأجابتنا حول دوافعها الشعرية وحاجة الأدباء الشباب في هذا الوقت، تقول: أرى أنّ الشاعر الحقيقي سيغزوه الشعر في كلّ فكرة.. فلا دوافع تنحصر في عِبرة إنما هي خلجات والكثير من الموهبة الكامنة في أعماق الكلام، وتعتقد أنّ الأدباء الشباب يحتاجون اليوم إلى اهتمام أوسع في اللغة العربية وفي تثقيف أنفسهم ليكوّنوا مخزوناً معرفيّاً مستداماً، فضلاً عن تواضعهم وتقبّلهم النقد، ومما كتبت نقرأ:
“حبكةُ صحوةٍ – ق.ق.ج
الروايةُ لم تُنجز، الكاتبُ بات أبكمَ، والبطلُ يتلاطم في أعماق صريخه المنسيّ، والأحداثُ تُدهم الزّمن تريد أن تسبقه، والزمن ثابتٌ لا يسبقه لحظٌ، والمكان تبعثر في الكلام فلا استقر ولا هاجر، ولا نام على شاطئ الأماني حيث يغفو قلبٌ من صحوة الشعور بات يُحتضر!
نذكر إنه منذ مدة نشر اتحاد الكتّاب العرب إعلاناً عن معرض كتاب سيقيمه في كلية الآداب – جامعة دمشق، لفت انتباه الكثيرين لجهة سعر الكتاب.. فرغم الفحش في أسعار السلع حدد الإعلان سعر الكتاب بـ(1000 ليرة) لأي كتاب، فيما خصص سعر المجموعة الشعرية بسعر لا يتجاوز الـ( 500 ليرة).. عن هذا الإعلان يذكر نائب رئيس اتحاد الكتاب العرب الشاعر توفيق أحمد: نحن نضع نصب أعيننا الوضع المعيشي أولاً وإمكانات الطالب الذي يحتاج هذه الكتب ثانياً.. وحتّى إن لم تكن الثقافة أولوية في هذا المعرض لكن عندما نقدّمها على أطباق من هذا النّوع وبمنتهى السهولة يمكن أن تُذلّل أغلب الصعوبات لمن يحتاج الكتب، إذاً نحن بهذه الحالة لا نقلل من أهميّة الثقافة بل نقصد تكريسها وتوزيعها وانتشارها.. وحتى قبل حوالي شهر أقمنا معرضاً في مدخل من مداخل كلية الآداب وفي الحقيقة كانت الغلال وفيرة، وفي النهاية ذكر لنا أنّه مع الأمل بأن كل صنوف المعرفة ستنهض لأنها هي من تبني النفوس وإن لم تعطِ أُكُلها اليوم فهي ستعطيها غداً.
ولجهة الكثرة مما يُقدّم على أنه شعر؛ يُضيف الشاعر توفيق أحمد: يبدو هذا منطقياً في ظل الحالات النفسية الصعبة والاضطرابات الناجمة عن الحروب التي تفضي بدورها إلى إرهاصات شبابية قد يتوهّم الكثير أنها شعر.. رغم توفر- وهذه وجهة نظرنا، وإن كان قليلاً- حالات شعرية جيدة وربما عالية.
ونختم مع “أوسكار وايلد” الذي يقول: “إنه يعيش الشعر الذي لا يستطيع كتابته.. فيما الآخرون يكتبون الشعر الذي لا يستطيعون عيشه.”
سيرياهوم نيوز 2_تشرين