عشقناها بلونها الفريد وعطرها الأخاذ، الذي جعلها إيقونة ثقافية عابرة للقارات، إنها وردتنا الشامية، تتفتح في موسم قطافها لتغازل شبابنا وبوابات حاراتنا ونوافذ منازلنا، بل باتت سفيرة عطورنا السورية إلى عواصم العالم.
مع موسم قطافها كل عام تقام في سورية المهرجانات للاحتفاء بها، والمعارض الفنية والفعاليات الثقافية لرسمها والتغني بها والحديث عن مزاياها بريشة كل فنان وقلم كل شاعر وقصيدته، وبحضور مختلف الفعاليات تزدان تلك المعارض وتتراقص أروقتها، إنها وردتنا الشامية التي صنفتها “اليونسكو” مع جميع الحرف التقليدية المرتبطة بها على لائحة التراث الثقافي اللامادي العالمي.
الوردة الشامية أو “ملكة الورود”, كما أطلق عليها رئيس جمعية المراح “أمين البيطار”, هي الوردة الوطنية للجمهورية العربية السورية, وهي شجيرة شوكية تنمو في المرتفعات في بلاد الشام منذ القدم, حيث وجدت في جبال القلمون، وانتشرت من سورية إلى العالم بأسره بطرق شتى.
وردتنا الشامية جعلت قرية المراح السورية – التي تشتهر بها- ملاذاً للشعراء ومقصداً للسياح والتجار, لما لها من خواص وسمات تميزها عن غيرها من الورود (طبية, تجميلية, صحية, عطرية, غذائية, تجارية).
تربعت هذه الزهرة في قرية المراح وبضع مناطق سورية أخرى بفضل طقسها القارس, ونظراً لقوة نموها في القرية المذكورة مقارنة بغيرها من المناطق السورية التي نجحت في زراعتها، ولذلك لقبت القرية باسمها، واتفق الباحثون والمختصون على تسمية المراح بالوردة الشامية.
يتم قطافها ضمن طقس سنوي بديع منذ الصباح الباكر وهو الوقت الأفضل للقطاف، حيث ينتشر الأهالي وهم يحملون سلالهم في حقول قريتهم كأنهم من قصص الخيال والروايات.
وفي مهرجاناتهم يستقبلون ضيوفهم بتقديم الأزهار التي قطفوها لهم إلى جانب كؤوس شراب الورد.
ويساوي ثمن الغرام من زيتها العطري ثمن غرام من الذهب الخالص، وفي هذا قال عنها البيطار: “أغلى من الذهب وأبقى من النفط”.
دونت في ذاكرة الإغريق عندما ذكرتها الشاعرة الإغريقية “سافو” في القرن السادس قبل الميلاد وأطلقت عليها ملكة الأزهار، كما ذكرها “شكسبير” بقوله: “جميلة كجمال وردة دمشق”.
نتباهى بها ونفتخر بحضورها في المعارض الدولية لأن منشأها بلادنا، ولأن كل “بتلة” من “بتلاتها” تروي لنا حكاية سورية، من عطرها الفواح، إلى جمالها الأخاذ الذي استنسخته من جمال أمها الفريد “سورية”.
تربعت صيف العام الماضي على عرش الحدائق الملكية البريطانية، ونثرت عبقها بين زوارها، منحتهم الجمال والحب السوري، فهي واحدة من أقدم نباتات الزينة في بلاد الشام والعالم.
للوردة الشامية خواص جمالية كثيرة، إذ تعبق بالروائح العطرة والحياة لفترة طويلة، وتحمل في مظهرها وطياتها التعبيرية خليطاً من مشاعر السكينة والأمل والتأمل والاعتزاز بالنفس، وترمز للمشاعر الصادقة والنبل والحب، وتعد المادة الأساسية للعطور النفيسة في كافة أنحاء العالم، ويتم تصديرها خاصةً إلى الشركات الفرنسيّة التي تعنى بصناعة أفخر أنواع العطور بالعالم.
ولأن سورية غنية بتضاريسها ومناخاتها التي تعشقها الوردة الشامية فإننا نجدها في حلب ودمشق وعلى امتداد المحافظات، التي يمكن أن تنبت فيها بفضل مناخها المعتدل.
حضرت وردتنا البهية في معظم معارض الزهور في عواصم الدنيا غرباً وشرقاً، وهذه كندا تحتضنها منذ أشهر، وعلى مدى أيام تستضيفها “تورينتو” تحت عنوان: ”الوردة الشامية.. من سورية إلى تورينتو” وازدان المعرض بصور فوتوغرافية عنها، وبأمسيات أدبية إحداها بعنوان: “قصيدة إلى الوردة ” بمشاركة موسيقيين ومغنين من مختلف البلدان، واختتمت أيامها بمؤتمر التراث الثقافي “جسر السلام”.
وتعود أقدم المخطوطات التي ذكرت فيها الوردة الشامية إلى القدم، ويعد ابن سينا أول من اكتشف الفائدة العطرية والتقطيرية لها وأول من بدأ باستخراج الزيت العطري منها منذ القرن الحادي عشر الميلادي، وانتقلت هذه الصناعة وفق ما ذكرته معطيات كتاب التراث الثقافي اللامادي السوري، إلى دمشق عن طريق التبادلات التجارية التي كانت تجري بين مدينة بخارى “موطن الطبيب الرئيس ابن سينا” وبلاد الشام، ومنها انتقلت إلى دول العالم وأوروبا التي عنيت كثيراً بالورود، وقامت باستيرادها لزراعتها واستخلاص العطر منها، حيث يعد عطرها هو الأغلى ثمناً بين جميع أنواع العطور في أوروبا، ويدخل في تركيب العطور الفاخرة الأخرى، وزيتها الأغلى على مستوى العالم.
وزيتها العطري المستخرج هو عبارة عن زيت طيار يعرف باسم زيت “رو زكام” ويعرف عالمياً بـ «rosootto» ويستعمل لصناعة أفخر أنواع العطور وأغلاها ثمناً.
ما يثير الانتباه أن الأبحاث تذكر أن إنتاج كيلو غرام واحد من زيت الوردة الشامية يحتاج إلى أربعة أطنان من الورد ويباع زيت الورد بالغرام، بينما يحتاج إنتاج ٨٠٠ غرام من ماء الورد إلى كيلو غرام من هذا الورد.
وصناعتها تحتاج الدقة والخبرة لاستخراج الزيت منها ومن ثم استخدامه في تركيب العطور، وبذلك يتم نقل المعرفة من الآباء إلى الأبناء من بعدهم، خاصة وأن شيوخ الكار حريصون على تعليم أبنائهم تفاصيل الصنعة لأن للعطور الدمشقية تطبيقات علاجية ونفسية، عصبية وبدنية.
لهذا كله عشقناها وأحببنا عطرها، ولهذا باتت إيقونة ثقافية عابرة للقارات، وباتت “ملكة الورود”, والسحر السوري المكنون في أغلى عطور العالم.
سيرياهوم نيوز 2_الثورة