الرئيسية » ثقافة وفن » فِلَسْطِينُ في مِرْبَدِ البَصْرَة

فِلَسْطِينُ في مِرْبَدِ البَصْرَة

د. مُحمَّد الحوراني

أنْ تتحدّثَ عن البصرة يعني أن تتوضَّأ بماءِ الطُّهر، وتتفيَّأ بظلالِ الثّقافة والأدب واللُّغَة والفلسفة العميقةِ جُذورُها في تاريخها وبينَ أهلها، لتَغْدُوَ زاهداً في الحياة، ناسِكاً في مِحْرابِ النَّقاء الصُّوفيّ بعدَ أن سيطرَ على قلوبِ النُّسّاك وعُقولِهم، وعلى رأسهم العَلّامةُ العارفُ والمُتَصوِّفُ النَّاسِكُ الإمامُ الحَسَنُ البَصْريّ.

نعم، هكذا هيَ مدينةُ السَّيّاب، الذي عشقَ العراقَ بأحوالِهِ كُلِّها، حتّى بظلامِهِ كونَهُ أنارَ طريقَهُ، وتَغنَّى بجَمالِ شمس البصرة الحارقة لأنّها كانتِ الأجملَ بينَ شُموسِ الكون. إنّها مدينةُ العِلْمِ، وحاضِرَةُ الثَّقافةِ والفِكْر واللُّغَة، وحاضنةُ الانتماءِ والأصالة والانحياز إلى القضايا الإنسانيّةِ العادلة، وعلى رأسها قضيّةُ فلسطين بكُلِّ ما تَحْمِلُهُ من مظلوميّةٍ وتآمُرٍ على شعبٍ هُجِّرَ مِنْ أرضِهِ بعدَ أن ارتُكِبَتْ بحقِّهِ مئاتُ المجازرِ المُروِّعةِ بعدَ الاحتلالِ الصهيونيِّ لوطنِه.

ولأنَّ العراقَ عُموماً، والبَصْرَةَ خُصوصاً، كانا دائِمَـي الانحياز إلى فلسطين، فقد كانت فلسطينُ بكلِّ ما تَحمِلُهُ من وَجَعٍ وعذابٍ ومجازرَ، الحاضِرَ الأقوى في (الدَّورَةِ الخامسةِ والثلاثينَ لمهرجانِ المِرْبَد ٢٠٢٤)، وهي الدورةُ التي حملَت اسمَ الشاعرِ العراقيِّ البَصْريِّ الكبيرِ أحمد مطر، الذي لم يَمْلِكْ سوى الاعتذارِ إلى القُدسِ عمَّا أصابَها من ظُلْمٍ وفُجورٍ على أيدي الاحتلالِ أمامَ عَجْزِ الأنظمةِ العربيّةِ وتخاذُلِها عن القيامِ بواجبِها إزاءَ ما تتعرَّضُ لهُ فلسطينُنا وقُدسُها عَرُوسُ عُروبَتِنا، وهي التي علَّمَتْنا أنَّ حُروفَ التّاريخِ مُزوَّرةٌ حينَ تكونُ بدُونِ دِماء، كيفَ لا، والنَّارُ تصهلُ مِنْ وراءِ شعبِها، والقذائفُ لا تنام عيونُها، وأبي على ظهري، وفي رَحِمي جنين عُرْيان دُونَ فمٍ ولا بَصَرٍ، تَكوّرَ في الظَّلام، في بركةِ الدَّمِ، وهوَ يفركُ أنفَهُ بيَدِه…؟!

نعم، هذا هو الواقعُ المأساويُّ لأطفالِ فلسطينَ كما يُصوِّرُهُ سيَّابُ البَصْرَةِ، لكنَّ مأساويَّةَ الواقعِ وقَتامَتَهُ يجبُ ألّا تُفْقِدانا الأملَ بالنَّصْرِ والتَّحرير، حتّى وإنْ كانتِ الأنظمةُ العربيّةُ جِيلَ الدَّجَلِ والرَّقْصِ على الحِبَال كما صَوَّرَهُمْ نزار قبّاني، فالآمالُ معقودةٌ على أطفالِ فلسطينَ لأنَّهم بُذورُ الخِصْبِ في حياتِنا العقيمَة، وهُمُ الجيلُ الذي سيَهْزِمُ الهزيمَة.

هكذا كانتْ فلسطينُ بكاملِ جَلالِها وقُدْسِيَّتِها حاضرةً بقُوَّةٍ في مهرجانِ المِرْبَدِ الأخيرِ بما قدَّمَهُ الأُدَباءُ والشُّعراءُ الذينَ جاؤُوهُ مِنْ مُعظَمِ الدُّوَلِ العربيَّةِ وغيرِ العربيّة، كما كانتْ مُعظَمُ قضايانا العربيّةِ حاضرةً في نُصوصِ الشُّعراءِ وجلساتِ المُثقّفينَ في هذا العُرْسِ الثقافيِّ الكبير.

لقد أثبتَ مهرجانُ المِرْبَدِ في دورتهِ الخامسةِ والثلاثينَ هذا العامَ أنَّ القضيَّةَ الفلسطينيّةَ لا تزالُ الحاضرَ الأقوى عندَ شُعراءِ الأمَّةِ في وَطَنِهم والمهجرِ معاً، بل إنَّ حربَ الإبادةِ التي يشنُّها الكيانُ الصهيونيُّ على غزَّةَ جَعَلَتِ الشُّعراءَ والأُدَباءَ في المِرْبَدِ يُعْلِنُونَ انحيازَهُمُ المُطْلَقَ إلى القضيَّةِ الفلسطينيّةِ، كيفَ لا؟ والدَّمُ لا يزالُ دفَّاقاً، والصَّرْخةُ لا تزالُ تُمزِّقُ الضَّميرَ، والقبورُ مفتوحة، في فمِها أكثرُ مِنْ سُؤال، ولم يزلْ مدخلُ (كفر قاسم) مُروّعاً من هَوْلِ تلكَ الليلةِ السَّوداء.

كما أنَّ الأملَ كانَ حاضراً عندَ الأُدَباءِ في المِرْبَدِ بأنَّ فجرَ النصرِ الفلسطينيّ غدا أقربَ إلى الشَّعبِ الفلسطينيِّ من حَبْلِ الوريد. ولأنَّ فلسطينَ، كانتْ، وستبقى، قِبْلَتَنا وجوهرةَ قلادَتِنا، كانَ لا بُدَّ لنا مِنْ أنْ نَدْفَعَ ثمَناً غالياً لتحريرِها مِنْ دَنَسِ المُحتلِّ، فالفجرُ الفلسطينيُّ لا يُشبِهُ غيرَهُ على الإطلاقِ، إنّهُ الفجرُ المُعمَّدُ بطُهْرِ دِماءِ الأطفالِ وقدَاسةِ أرواحِ النِّساءِ وكبرياءِ الشَّبابِ وعِزَّتِهم وروحانيَّةِ الشُّيوخِ وحِكْمَتِهم، وهو الفجرُ الطّالعُ مِنْ نِداءِ الأرضِ عندَ فدوى طوقان بقولها:

بدا الفجرُ مُرْتَعِشاً بالنَّدى

يُذَرْذِرُهُ في الرُّبى والسُّفوحْ

ومَرَّ بَطِيءَ الخُطى فوقَ أرضٍ

مُضَمَّخَةٍ بنجيعٍ نفوحْ

تَلُفُّ ذِراعَينِ مُشْتاقتَينِ

على جَسَدٍ هامِدٍ مُستَرِيحْ

شُكراً للعراقِ وأُدَبائِهِ ومُؤسَّساتِهِ الثقافيَّةِ، وشُكراً للبَصْرَةِ ومِرْبَدِها، وهو يُعيدُ إلينا بهاءَ الحُضورِ الفلسطينيِّ في الشِّعْرِ العربيِّ الحديثِ والمُعاصرِ، مُحاوِلاً التَّعْشِيقَ بينَ الأجيالِ المُختلفةِ بأصالتِها وصِدْقِ انتمائِها، ويَجْعَلُنا أكثرَ يقيناً باقترابِ بُزوغِ الفجرِ الفلسطينيِّ وزَوالِ المُحتلِّ الصّهيونيِّ على الرَّغْمِ مِنْ حربِ الإبادَةِ التي تُحاوِلُ إفناءَ الشعبِ الفلسطينيِّ وتدميرَ هُويّتِهِ وثقافَتِه.

 

 

 

سيرياهوم نيوز 2_راي اليوم

x

‎قد يُعجبك أيضاً

وإنّما أولادُنا بيننا.. أكبادُنا تمشي على الأرضِ … في يوم الطفل العالمي.. شعراء تغنوا بالطفولة

  قد تجف أقلام الأدباء وتنضب أبيات الشعراء ولا ينتهي الحديث عن جمال الأطفال وذكريات الطفولة في عمر الإنسان؛ فالطفولة عالم مملوء بالحب والضحك والسعادة، ...