آخر الأخبار
الرئيسية » حول العالم » دموعٌ على جاذبية تذوي: بايدن ليس مُخلّص الإمبراطورية التي تتجه للأسوأ

دموعٌ على جاذبية تذوي: بايدن ليس مُخلّص الإمبراطورية التي تتجه للأسوأ

لم تتجاوز النخب الليبرالية الأميركية، والمُتيّمون الكثر بنموذجها الديموقراطي عبر العالم، صدمة اقتحام الكونغرس من قِبَل أنصار دونالد ترامب في الـ6 من الشهر الحالي. يحاول هؤلاء إقناع أنفسهم أولاً، وبقية شعوب المعمورة ثانياً، بأن الديموقراطية “العريقة” ستتغلّب على مصاعبها وستنجح في رأب تصدّعاتها الداخلية، لتعود وتحتلّ موقعها الريادي في قيادة البشرية نحو غدٍ أفضل. تتوالى الدعوات إلى اتّحاد جميع الديموقراطيين في مواجهة عدوّ مِن بني جلدتهم يتربّص بهم: “الشعبوية”. هذا هايكو ماس، وزير الخارجية الألماني، يفتي على موقع “شبيغل” بأن “على كلّ الديموقراطيين في العالم التكاتف. فالمعركة ضدّ أوهام ضَيّقي الأفق وضدّ اللاتسامح وضدّ تقسيم مجتمعاتنا، هي معركتنا المشتركة… أمثال ترامب، الذين أمضوا سنوات يُحرّضون أنصارهم، يتحمّلون مسؤولية هذا الهجوم على قلب الديموقراطية الأميركية. نرى في أنحاء العالم ما يقع عندما يصل الشعبويون إلى السلطة ويُسعّرون الحقد بمنهجية على المؤسسات الديمقراطية”.لا شك في أن “الشعبويين”، أو الفاشيين الجدد، إن شئنا اختيار مصطلح دقيق لتوصيفهم، يُمثّلون تهديداً فعلياً للنظام الديموقراطي العتيد في المراكز الإمبريالية وفي أطرافها. لكن اللافت هو إصرار مَن هبّوا للذَّود عن جاذبية الديموقراطية، على رغم مشكلاتها، على تجاهل سرّ “جاذبية” ترامب وأمثاله بالنسبة إلى قطاعات عريضة جدّاً من الناخبين في داخل الديموقراطيات “النموذجية”. بكلام آخر، النقاش الفعلي يجب أن يتمحور حول الأسباب البنيوية التي أدّت إلى نموّ الظواهر الفاشية والنيوفاشية في قلب هذه الديموقراطيات، إلى درجة إيصال بعض ممثّليها إلى السلطة في العديد منها. هزيمة ترامب الانتخابية لن تعني اندثاراً لهذه الظاهرة التي حملته إلى الرئاسة، والتي باتت معطى بنيوياً في الولايات المتحدة ودول غربية أخرى، سيؤجّج التناقضات السياسية والاجتماعية في داخلها، ارتباطاً بانحسار نفوذها الإمبراطوري على الصعيد الدولي. الديموقراطية في أزمة، وهي أزمة وثيقة الصلة بأزمة الهيمنة الإمبراطورية الأميركية والغربية.

عن الديموقراطيات الإمبراطورية 
المتباكون على “فاجعة الكابيتول” يمتلكون من المرجعيات الفكرية والأدوات النظرية ما يكفي على الأقلّ لإجراء مقارنات تاريخية بين الخلفيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أدّت إلى صعود الفاشية والنازية في أوروبا في ثلاثينيات القرن الماضي، وتلك التي تُسبّب نموّاً مطّرداً للنيوفاشية في بلدانهم اليوم، على رغم اختلاف الظروف الراهنة عن تلك السابقة. لا يمكن تحليل الديموقراطية كنظام سياسي، وتأزّماتها، بمعزل عن سياقات محدّدة تاريخية وجيوسياسية واقتصادية – اجتماعية. نَمَت الديموقراطية كنظام سياسي في المراكز الإمبريالية الرأسمالية.

فشل العولمة في تأبيد الهيمنة الأميركية هو السبب الرئيس في استعار التناقضات الداخلية

ينطبق هذا الواقع على بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، المستعمرة الاستيطانية الكبرى. الصلة العضوية بين النظام الديموقراطي وضمان شروط استقراره من جهة، وبين التوسّع الاستعماري من جهة أخرى، لم تغب عن بال أحد المفكّرين المرجعيّين للديموقراطية ومؤلف كتاب “عن الديموقراطية في أميركا”، ألكسي دو توكفيل، القطب الأبرز لما كان يسمّى “الحزب الاستعماري في فرنسا” خلال القرن التاسع عشر. دعا توكفيل، في مقالاته ومداخلاته أمام الجمعية الوطنية الفرنسية، النخب السياسية الحاكمة في هذا البلد، الذي عصفت به الأزمات السياسية والاجتماعية منذ الثورة في 1789، إلى السير على خطى الإمبراطورية البريطانية، النموذج الملهِم للعديد من الليبراليين في ذلك الزمان. هو أسهب في شرح كيفية تأمين التوسّع الاستعماري للموارد المادية الحيوية للتقدّم والازدهار الاقتصادي وما يصاحبهما من استقرار سياسي داخلي. ما قاله توكفيل بلغة مباشرة و”فجّة”، في مرحلة كان فيها قيام الغربيين بإخضاع “الآخرين” والسطو على ثرواتهم أمراً “طبيعياً”، بل و”مهمة حضارية”، لم يعد قابلاً للتكرار من قِبَل ليبراليّي هذا الزمان، الذين يجتهدون لابتداع مفاهيم جديدة تُبرّر استمرار السيطرة الإمبريالية كـ”الهيمنة الحميدة” و”نشر الديموقراطية” و”التدخل الانساني”. لا يمكن الفصل بين تطوّر دولة الرعاية في بلدان الغرب الرأسمالي في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، وبين النهب الإمبريالي لثروات بلدان الجنوب وتوزيع فتاته على الطبقات الشعبية في الأولى. الأمر نفسه ينطبق على عملية إدماج قطاعات مهمّشة من هذه الطبقات الشعبية على المستوى السياسي والسماح بمشاركة ممثلين عنها في “العملية الديموقراطية”. وفي الحالة الأميركية مثلاً، تمّت المصادقة على إلغاء الفصل العنصري بحق الأفارقة – الأميركيين من قِبَل الرئيس ليندون جونسون في 1965، أي بعد أقلّ من سنة على بداية حرب فيتنام في 1964. قُدِّم الانخراط في الجيش والمشاركة في هذه الحرب على أنه الطريق الأقصر ليحظى هؤلاء بشرف الانضمام إلى “الأمة المختارة”. وقد عارض أهمّ قادتهم ورموزهم كمارتن لوثر كينغ ومالكوم أكس ومحمد علي كلاي المساهمة في قتل الفيتناميين، قبل أن يجري اغتيال الأول والثاني من قِبَل الأجهزة الأمنية الأميركية. الهيمنة الإمبريالية وما صاحبها من نهب لثروات جنوب العالم سمحا بشراء السلم الاجتماعي الداخلي بدرجة كبيرة، حيث تراجعت التيّارات “المتطرّفة”، اليسارية منها واليمينية، لمصلحة أحزاب يمين الوسط ويسار الوسط، التي حملت، مع الانعطافة النيوليبرالية في بداية ثمانينيات القرن العشرين، برامج شبه متطابقة. ولكن، مع بداية عصر “العولمة السعيدة” و”نهاية التاريخ”، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وكتلته الاشتراكية، عادت التيّارات اليمينية المتطرّفة إلى الصعود في الولايات المتحدة وبقية الغرب، واعتقد البعض أن ما يتلازم مع العولمة من رفع للحواجز بين الشعوب والبلدان وتمازج ثقافي، وما ينجم عنهما من إعادة اكتشاف لـ”الاختلاف” وشعور بتهديد الهوية “الأصلية”، هو العوامل المؤدّية إلى هذا الصعود.

قصور التفسير الثقافوي 
وُصف أنصار ترامب المتحمّسون بأنهم أعداء للديموقراطية وقيمها الثقافية، وهم بلا ريب كذلك. غير أن هذه الثقافة والقيم، اللتين تتكفّل أجهزة الدعاية الأيديولوجية للدولة الأميركية، من مدارس ووسائل إعلام وصناعة سينمائية، ببثّهما والترويج لهما بين مواطنيها منذ نعومة أظافرهم، لم ترسخا في أذهانهم، بل وانقلبوا عليهما. حَذّر صامويل هانتغتون في آخر كتبه، “من نحن؟”، الصادر سنة 2004، من وقوع صدام ثقافات وحضارات في قلب الولايات المتحدة نتيجة للعولمة، يُشكّل امتداداً بمعنى ما لصراع الحضارات الجاري بنظره منذ بداية التسعينيات على النطاق الدولي، والمقرون بتغييرات ديمغرافية في أميركا تزيد من وزن الكتلة الاجتماعية التي تعود أصولها إلى أميركا اللاتينية، على حساب تلك الأنغلوساكسونية. ستُعزّز هذه التحولات حتماً، من وجهة نظره، التيّارات المنادية بضرورة الدفاع عن الهوية “الأصلية”، الأنغلوساكسونية طبعاً، المُهدَّدة. وبعد أكثر من عقدين على نشر كتابه عن “نهاية التاريخ”، الذي ينضح بالآمال الوردية حول مستقبل الإنسانية في ظلّ “ديموقراطية السوق”، أقرّ فرانسيس فوكوياما في كتابه الصادر في 2014، “الهوية”، بالخطأ الذي ارتكبه عندما أغفل الأبعاد المرتبطة بالمطالبة بالاعتراف بالهوية ، و/أو الدفاع عنها، كأحد أبرز المُحرّكات للفعل السياسي في العالم المعاصر. 74 مليون أميركي انساقوا خلف مقاول “شعبوي” رفع شعار “أميركا أولاً”، وأعلن عزمه على تطويع مسار العولمة أو الانسحاب منه، لأنه لم يعد يخدم مصالح الأميركيين “الحقيقيين”. وفي الحقيقة، فإن فشل العولمة في تأبيد الهيمنة الأميركية على العالم، على الرغم من أنها مشروع أميركي في الأصل، وصعود المنافسين الطموحين، هما السبب الرئيس في استعار التناقضات السياسية والاجتماعية في الديموقراطية الإمبراطورية. وإذا لم ينجح جو بايدن في التصدّي بنجاعة للمنافسين في الخارج، فلن يفلح في رأب شرخ مرشّح للتعاظم في الداخل.

(سيرياهوم نيوز-الاخبار)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الرئيس الإيراني يدعو بابا الفاتيكان لحث زعماء العالم للوقوف بوجه جرائم “إسرائيل”

  فرانسيس الثاني أنّ إيران مُستعدّة للتعامل البنّاء مع الفاتيكان من أجل تعزيز السلام والعدالة في العالم.     أكّد الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، اليوم ...