حسين إبراهيم
قلّما عرفت العلاقات الأميركية – الإسرائيلية صداماً بين رأسَي الهرم، مثل الذي يحصل اليوم بين جو بايدن وبنيامين نتنياهو. الخلاف تحوّل إلى هجمات علنية متبادلة تخرج عن اللياقة الديبلوماسية، ولعلّها في الوقت نفسه، تمثّل اختباراً لا سابق له، للعلاقة بين تينك الدولتين، والتي ما زالت عصية على تفكيك ألغازها منذ أن ورثت أميركا تركة الاستعمار البريطاني في الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية. منذ ذلك الحين، كانت إسرائيل قضية مقدسة في الحياة السياسية الأميركية، الداخلية والخارجية، يقرَبُها المسؤولون الأميركيون بخفر، حتى إذا تصادمت المصالح، ابتدع الرئيس الأميركي صيغة للضغط الاحتضاني الذي يبقي العلاقة على أبويتها. الآن تبدو الأمور مختلفة، والفضل في هذا، يعود إلى صمود المقاومة الغزية التي لم يشهد التاريخ ملحمية مماثلة لها. لقد غيّرت غزة نظرة العالم كلّه إلى إسرائيل وأميركا والغرب بشكل لا بد من أن يترك أثراً على الحياة السياسية في الولايات المتحدة، ويطرح أسئلة كبرى عن النظرة الأميركية إلى مستقبل إسرائيل، ولو في الشكل. نظرةٌ ينقسم حولها يهود الخارج أنفسهم، والذين صار الكثيرون منهم يخافون العيش في هذا العالم، بعد ارتدادات الجرائم الوحشية الإسرائيلية في غزة على أمنهم الشخصي ورفاههم. سَل أيّ طالب يجاهر بتأييده إسرائيل في أي من جامعات أميركا وسيخبرك عن موقف زملائه منه، والذي يتحوّل في كثير من الأحيان إلى تصرف عقابي على تأييده ذاك.لربما تُعين تلك التطورات، في المستقبل القريب، على الإجابة عن أسئلة ما فتئت تُطرح منذ عقود، من مثل من يقرّر حين يحصل تصادم بين الجانبين، في قضايا تخص الشرق الأوسط، أهي أميركا أم إسرائيل؟ ومن هو الأقوى في أميركا، أيضاً في ما يخص الشرق الأوسط، أهو رئيس وزراء إسرائيل أم الرئيس الأميركي؟ يخطئ من يظن أن المسألة تقتصر على شخصية نتنياهو الصدامية بطبيعتها. هذه طبيعة المجتمع الإسرائيلي التي صيّرتها كذلك الحركة الصهيونية العالمية، التي تضع دولة إسرائيل في كوكب، والعالم في كوكب آخر، وفي البرزخ بينهما دول كالولايات المتحدة. هكذا هو التاريخ الإسرائيلي الذي تكفي للدلالة عليه حادثة تفجير «فندق الملك داوود» في القدس عام 1946، والتي قتل فيها العشرات، الكثير منهم بريطانيون، بأوامر مباشرة من مناحيم بيغن، ثم مع ذلك، صار الأخير لاحقاً رئيساً لوزراء إسرائيل.
ما زال بإمكان نتنياهو ربط مصيره بالنتيجة النهائية للمعركة، مستفيداً من شعور الإسرائيليين بتهديد وجودي لم تستطع أميركا تهدئته
بعد السابع من أكتوبر مباشرة، وضع نتنياهو وبايدن خلافاتهما الشخصية جانباً، وصارا قائدين لدولتين حليفتين تعرّضتا معاً لصفعة يصعب عليهما تقبّلها لما لها من انعكاس عميق على وجود إسرائيل من جهة، وعلى كامل بنية المصالح الأميركية في الشرق الأوسط والعالم من جهة أخرى. كانا شريكين في مجلس حرب واحد، حتى بدا أن انتصاراً سريعاً للهجوم المشترك المضاد كفيل بأن يُعيد إلى التحالف ألقَه، ويكفي الله المؤمنين القتال. غير أن الأمور لم تسر على النحو المأمول، وتعقّدت المهمة على الحليفين، بفضل المقاومة الغزّية. عند هذه النقطة، مثُل أمام الحليفين السؤال: إلى أين من هنا؟ الجواب عند نتنياهو: نحو تسوية غزة بالأرض وطرد الفلسطينيين منها؛ فيما عند بايدن: الذهاب نحو تسوية والتعامل بشيء من الواقعية مع ما أفرزته نتائج الميدان، والسعي إلى تحقيق الأهداف نفسها بطرق أخرى.
حتى الآن، ما زال بإمكان نتنياهو ربط مصيره بالنتيجة النهائية للمعركة، مستفيداً من شعور الإسرائيليين بتهديد وجودي لم تستطع أميركا تهدئته، بسبب التركيبة الاصطناعية لدولة الاحتلال، رغم كل الدعم الذي قدمته واشنطن التي تفترض أيضاً أنها تستطيع القيام بما لا تقدر عليه «تل أبيب»، عبر إمساكها الأخطبوطي بكل مفاصل القوة في الشرق الأوسط برمته. في إسرائيل من لا يقبل بذلك، ومن يريد من أميركا أن تنقذه وتدعمه، ثم لا تتدخل في خياراته، حتى لو كانت وبالاً على المصالح الأميركية.
هنا، بدأ الخلاف يتعمّق، وتعقّدت الأمور عند بوابات رفح التي يراها نتنياهو المعركة الأخيرة التي لن يكون بعدها وجود لـ«حماس» في القطاع – وذلك بعيد عن الواقعية -، فيما يراها بايدن المسمار الأخير في النعش الذي ستُلقى فيه جثته السياسية، إذا ما خسر انتخابات الخامس من تشرين الثاني المقبل أمام منافسه دونالد ترامب، الذي يرى نتنياهو في فوزه أملاً وحيداً في تجديد شبابه السياسي بعد أن بدا منذ «الطوفان»، على وشك الموت السياسي. نتنياهو هو محبوب صهر ترامب، جاريد كوشنر، وكان صديقاً لوالده إلى حد أنه نام في بيتهم ذات يوم. لا يحتمل بايدن إعادة المشاهد التي يراها العالم في غزة منذ ستة أشهر، إلى نقطة البداية في رفح، عدا عن أنه لا يؤمن، وفقاً للإيجازات الاستخباراتية التي تُوضع على مكتبه كل صباح، بأن إسرائيل ستحقق في رفح ما عجزت عن تحقيقه في الأشهر الستة الماضية من الحرب. نتنياهو في المقابل، معني بتمرير الوقت، حتى لو أمام أفق مسدود، في انتظار أن يقضي الله أمراً انتخابياً كان مفعولاً في أميركا.
من الآن وحتى ذلك الوقت، سيتصاعد الخلاف كثيراً. لكن ما بدأت تظهر بوادره بوضوح هو أن بايدن يبيّت نية واضحة للإطاحة بنتنياهو قبل أن يطيح به الأخير، حتى لو أدى ذلك إلى بقاء «حماس» في غزة، وعلى سلاحها. فلم يكن تفصيلاً أن يصف البيت الأبيض اقتراح «حماس» الأخير في مفاوضات الهدنة بأنه ضمن المعقول، ولا أن تعدّ أميركا مشروع قرار صار جاهزاً لطرحه على التصويت في مجلس الأمن يشمل للمرة الأولى ذكر عبارة «وقف إطلاق النار». ولا هو تفصيل أن يخرج بايدن ويؤيد علناً تصريحات زعيم الغالبية الديموقراطية في مجلس الشيوخ، تشاك شومر – والأخير يهودي وصديق قديم لنتنياهو -، والتي رأى فيها أن نتنياهو ضلّ الطريق ويجب إجراء انتخابات جديدة في إسرائيل.
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية