كثيرة هي الأطراف الدولية التي تنخدع بسياسات أميركا، التي طالما تدّعي سعيها إلى تحقيق السلام في فلسطين، والاستقرار في العالم، وكثيرة هي تلك الأطراف التي تتجاهل سطوة أميركا على المنظمات الدولية وانتهاكها للقانون الدولي وحقوق الإنسان، وتتناسى أن هذه الأخيرة هي الدولة رقم واحد في العالم التي تتاجر بمآسي البشر، وتزعم أنها تقدم المساعدات لهم في شرق المعمورة وغربها، مع أنها هي التي تمنع حتى قوافل الإغاثة من الوصول إلى المحاصرين هنا وهناك، والشواهد لا تعد ولا تحصى.
قرار يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة خلال شهر رمضان لكنه يربط “وقف النار” بالإفراج عن الرهائن، لا بل لم يشر بوضوح إلى ضرورة إطلاق سراح آلاف الفلسطينيين من سجون الاحتلال
في مشهد العدوان الإسرائيلي على غزة تظهر الصورة الأميركية المذكورة في أوضح معالمها، إعلامياً وعسكرياً وإنسانياً وأخلاقياً، صورة متخمة بالقبح والفجور والغطرسة والتوحش، فمنذ عملية “طوفان الأقصى” وحتى اليوم نشاهد مئات الأمثلة والشواهد والأدلة القاطعة على ما نقول، ويكفي أن نشير هنا إلى مثالين اثنين خلال الأسبوعين الأخيرين لنؤكد المؤكد.
الشاهد الأول عبرت عنه أميركا خلال اليومين الماضيين، حين حاولت إيهام العالم بأنها تريد وقف إطلاق النار في غزة، بل ذهبت إلى مجلس الأمن الدولي بمشروع قرار لهذا الهدف، أما لماذا نقول إنه مشروع قرار تضليلي، وهدفه ليس وقف النار، بل تحقيق مآرب أخرى، فلعدة أسباب.
فهو يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في قطاع غزة خلال شهر رمضان بما يفسح المجال أمام حماية المدنيين والسماح بإيصال المساعدات الإنسانية، وإبرام اتفاق لتبادل “المحتجزين” بين “إسرائيل” والمقاومة وزيادة المساعدات الإنسانية، لكنه يربط “وقف النار” بالإفراج عن الرهائن، لا بل لم يشر بوضوح إلى ضرورة إطلاق سراح آلاف الفلسطينيين من سجون الاحتلال.
وفي حيثياته نجد أيضاً أنه يحمل الفلسطينيين مسؤولية ما جرى، ويدين مقاومتهم، متجاهلاً كل ما قام به الكيان المحتل من قتل لعشرات الآلاف وإرهاب وإجرام بحق أكثر من مليوني فلسطيني، وتدمير للبشر والحجر لم تعرفه البشرية من قبل.
وهو يدعو إلى قطع أي دعم للشعب الفلسطيني لمواصلة مقاومته، ويمهد لمعاقبة أي دولة تريد ذلك مستقبلاً، وأكثر من ذلك يتضمن عبارات “إنسانية” فضفاضة، مغلفة فقط بمصطلحات القلق والنصح باحترام حقوق الإنسان، “القلق والنصح” ليس إلا، وحتى الفقرة التي تدعو إلى إرسال المساعدات إلى غزة لم تتضمن دعوة صريحة لإنهاء الحصار الإسرائيلي الجائر على أكثر من مليوني إنسان فقدوا كل شيء.
كيف لأمريكا التي تقدم أحدث الأسلحة للجاني الإسرائيلي ليمعن بقتل الفلسطينيين أن يصحو ضمير ساكني بيتها الأبيض فجأة، ويقرروا فتح ميناء بحري مؤقت في غزة
وأما الشاهد الثاني فهو غيرة أميركا المزعومة على المدنيين ومقترحاتها لإنشاء ميناء بحري مؤقت في غزة، أو ما سمته “الرصيف العائم”، كي تصل المساعدات من خلاله لأهلها، وهو ما لم يفهمه أحد في العالم، فكيف لهذه الدولة التي تقدم أحدث الأسلحة للجاني الإسرائيلي ليمعن بقتل الفلسطينيين أن يصحو ضمير ساكني بيتها الأبيض فجأة، ويقرروا فتح ميناء بحري مؤقت في غزة.
وسرعان ما تظهر الحقيقة بأن وراء الأكمة ما وراءها، فلو كانت واشنطن تريد إدخال المساعدات لفعلت الأمر عبر الحدود مع فلسطين المحتلة، ومعبرا رفح وكرم أبو سالم أقرب للأمر من حبل الوريد، ولا يحتاج الأمر للوقت، ولا للجهد كما حال الميناء البحري، لكن واشنطن كعادتها تريد أن توفر لنتنياهو وقتاً إضافياً وغطاء لمزيد من القتل والإبادة الجماعية والتهجير من غزة، واستخدام سلاح الجوع بوقت أطول ضد المدنيين العزل، لا بل عدّ بعض المراقبين المقترح وسيلة للضغط على أهل غزة للهجرة عبر الميناء المذكور إلى أوروبا تمهيداً لإفراغ القطاع من سكانه.
شاهدان فقط، وبأقل من أسبوعين، ليتأكد للعالم أن أثواب الإنسانية التي ترتديها واشنطن هي خلبية، لكن المفارقة الأكثر من صارخة أن المؤسسات الأممية كمجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية ومجلس حقوق الإنسان هي مجرد شهود زور على تلك الأثواب المزركشة بألوان المحبة، التي هي في جوهرها أثواب القتل ودعم الإرهاب الإسرائيلي.
سيرياهوم نيوز 2_الثورة