ايهاب سلامة
وضع الكيان الإسرائيلي نصب عينيه، السيطرة على المنافذ والممرات البحرية في المنطقة، منذ نشأته على أرض فلسطين المغتصبة، ليضمن استعماراً قابلاً للحياة، وفك عزلته الجغرافية، والحيلولة دون محاصرته، وفرض هيمنته الإقليمية على شرايين الملاحة الدولية الموصلة منه واليه.
البحر الأحمر؛ ظل على رأس الأطماع الصهيوتلمودية، نظراً لموقعه الجيواستراتيجي الهام، الرابط بين قارات ثلاث: آسيا وإفريقيا وأوروبا، والذي يعد من أهم الممرات المائية، حيث تقع على سواحله أكبر مصادر الطاقة المغذية للعالم، وممراً رئيسياً لتصديرها، لذا؛ قام الكيان الإسرائيلي بتثبيت وجوده على ساحل البحر الأحمر بعد حرب 48، باحتلاله قرية أم الرشراش المطلة على خليج العقبة، تحت قيادة الكولونيل المقبور إسحاق رابين، ضارباً عرض الحائط باتفاقية “رودس” التي وقعها
مع الدول العربية لوقف إطلاق النار ، وأنشأ عليها ميناء (إيلات) لاحقاً.
ومنذ بواكير احتلاله لفلسطين، أدرك الكيان الإسرائيلي أن السيطرة على المنافذ والممرات البحرية المؤدية منه وإليه، يُحكم نفوذه على حركة الملاحة البحرية، وخطوط إمداد الطاقة العالمية، ولم يكن ليتحقق ذلك دون تطبيع العلاقات مع دول الخليج، الممتدة من سواحل الخليج العربي، ومضيق هرمز، وبحر العرب، ومضيق باب المندب، عبوراً إلى البحر الأحمر حتى بوابة خليج العقبة، وصولاً لميناء أم الرشراش المحتلة، ليتمكن من تنفيذ حلمه الأزلي، بشق قناته البحرية الخاصة الموازية لقناة السويس، التي سبق وأسماها “قناة بن غوريون”، تيمناً برئيس الكيان الأسبق “ديفيد بن غوريون” الذي وضع على رأس الأجندة الصهيونية عقب هزيمة العرب في حرب 48، حتمية السيطرة على البحر الأحمر، وربطه بالمتوسط، تحقيقاً لنبوءات توراتية باقامة “الدولة اليهودية” ما بين النيل والفرات!
“قناة بن غوريون” التي سبق وأن أعلنت سلطات الإحتلال عن ترصيدها موازنة بلغت 16 مليار دولار لتنفيذها، سيتم اقتراضها من بنوك أمريكية بفائدة واحد بالمئة فقط، بمدة سداد تمتد لثلاثين عاماً، ستغير قواعد اللعبة في المنطقة، وتعيد تشكيل هويتها الجيوسياسية، فهي تشكل تهديداً استراتيجياً لمضيق هرمز الإيراني، وقناة السويس المصرية، الممر الوحيد الرابط بين البحرين الأحمر والمتوسط، وسيتم تجاوزهما حال إنشائها، وتهميشهما، والإلتفاف عنهما!
الكيان الإسرائيلي، هندس مشروعه الإستراتيجي بحفر قناتين بحريتين متلازمتين موازيتين لقناة السويس. واحدة مخصصة للسفن المتجهة من البحر الأحمر إلى المتوسط، والثانية للقادمة من المتوسط إلى الأحمر، خلافاً لقناة السويس التي تضطر السفن العابرة منها للمرور يوماً باتجاه المتوسط، واليوم الآخر بالإتجاه المعاكس، ما يعني أن القناتين “الإسرائيليتين” ستقصران المسافة والوقت معاً؛ من والى البحرين الأحمر والمتوسط، وتخفضان الكلفة على حركة السفن التجارية، وتسحبان البساط بقوة من تحت أقدام قناة السويس.
المصريون الذين سبق أن سلّموا جزيرتي تيران وصنافير للمملكة العربية السعودية، التي تحضر في ذات الوقت لإطلاق أضخم مشروع إقتصادي على سواحل البحر الأحمر (نيوم)، سيكونوا الخاسر الأكبر من حفلة التطبيع العربية، سيما إذا ركبت بقية دول الخليج قطار الشرق السريع المتجه نحو تل أبيب، ووقعت اتفاقيات بحرية وإقتصادية وأمنية مع كيان الإحتلال، وحولت دفّة سفنها وخطوط أنابيبها تجاه الموانيء “الإسرائيلية”.
الإلتفاف عن مضيق هرمز المطل على السواحل الإيرانية، الذي ينقل عبره (40) بالمئة من انتاج النفط العالمي، عبر مد خطوط أنابيب على الأراضي الخليجية، إضافة للأنابيب الناقلة المنشأة أصلاً، مع طروحات بحفر قنوات مائية داخلية، برساميل ضخمة، موضوعة قيد الدراسة، لتحويل إمدادات النفط بعيداً عن مضيق هرمز، نحو موانىء البحر الأحمر مباشرة، ومنها لأم الرشراش، فموانيء سواحل المتوسط. كما يدور الحديث عن إعادة تشغيل خط تابلاين السعودي، الذي يعد أطول خط لنقل النفط في العالم، كل هذا وأكثر، تنظر له إيران التي أصبحت تراقب تشكل جبهة واسعة مضادة لها، كتهديد إستراتيجي لأمنها ومصالحها، ما يفتح باب الأحداث على مصراعيه، ويبقي المنطقة مستنفرة، وتغلي على صفيح ساخن.
“قناة بن غوريون”، واتفاقات التطبيع العربي، التفت على المصالح الأردنية أيضاً، وأجهضت مشروع “قناة البحرين” التي كانت من المفترض أن تربط البحر الأحمر مع البحر الميت، وشكلت جدلاً واسعاً في الشارع الأردني، فيما تحاول “اسرائيل” تهدئة روع الأردن، الذي بات يراقب تشكل تحالفات هجينة غير مسبوقة من حوله، عبر وعده بمد قناة للبحر الميت المهدد بالإنحسار والجفاف، من قناة “بن غوريون” الموعودة.
خلف كواليس التطبيع، يعي كيان الإحتلال جيداً، أنه يقبع وسط بحيرة من الرمال العربية والإسلامية المتحركة، حتى وإن كان العديد من دولها تطبع معه في السر والعلن. إلا أن العقلية الإستراتيجية الصهيونية لا تعوّل على ضمانات معاهدات الأنظمة، بقدر تطويع البيئة المحيطة للكيان بشكل يضمن تفوقه، ويكفل سيطرته وهيمنته، بل تعدى ذلك كما صرح رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو قبل أسابيع، ليضمن فرض الحصار على من كان يخشى الكيان من حصارهم!
التطبيع الجوي، يسير بموازاة التطبيع البحري أيضاً، فقد وقعت سلطات الإحتلال اتفاقيات تتيح لطائراته التحليق في الأجواء الأردنية والسعودية والإماراتية والبحرينية، ما يكسر عزلته الجغرافية كما صرح نتنياهو أيضاً، ويوفر على طيرانه كلف التنقل الجوي منه وإليه نحو آسيا، ويقصر المسافات بينهما.
أما التطبيع على الأرض، فمن المقرر أن يشمل إنشاء سكة حديد تحت مسمى “سكة حديد السلام”، ستقام على انقاض سكة حديد الحجاز، تشكل حلقة وصل بين ميناء حيفا، مروراً بأراضي الضفة الغربية والأردن، مع دول الخليج العربي. كما يجري الحديث الان، حول إنشاء ممر بري لمد أنابيب الغاز من دول خليجية إلى مدينة إيلات مباشرة، ومنها إلى ميناء عسقلان، لنقله لاحقاً إلى كل من أوروبا وأميركا الشمالية.
ما يمكن استخلاصه من مجريات الأحداث الدراماتيكية التي تجري بشكل راديكالي متسارع، أن كيان الإحتلال يفرد جناحيه على المنطقة والإقليم، ويسعى لتذويب الصورة النمطية عنه ككيان مغتصب لأرض فلسطين ومقدساتها، بمساعدة عربية إسلامية، وينخرط مع دول المنطقة بتحالفات براغماتية هجينة، لفك عزلته، وترسيخ هيمنته السياسية والإقتصادية والأمنية، على دول وشعوب عربية، مزقتها الخلافات والصراعات الداخلية والبينية، وارتضت لنفسها الإرتماء تحت جزمته صاغرة خانعة..
سيرياهوم نيوز 5 – رأي اليوم 18/1/2021