نبيه البرجي
لبنان، سياسياً وعسكرياً، بات أكثر فأكثر، تحت الأشعة ما تحت الحمراء. الأدمغة اليهودية في وول ستريت كانت تعلم، وترصد، كيف ينزلق لبنان الى الخراب المالي، بعدما أوغل في الخراب السياسي، وحتى الأخلاقي. دولة تدار لا بمنطق الدولة، ومنطق رجال الدولة، وانما بمنطق المقبرة، وبمنطق حفاري القبور.
كل التفاصيل كانت تصل تباعاً الى تل أبيب التي اذ كانت تراهن على تحلل الدولة في لبنان، ليتحلل معها “حزب الله”، فوجئت بسقوط الشق الثاني من الرهان. هذا لم يمنع صحيفة “اسرائيل اليوم” من التلميح، وغداة عملية “طوفان الأقصى” بأن حكومة بنيامين نتنياهو لا تريد أن يتحول قصر بعبدا الى “خندق آخر” للحزب.
قبل وفاته، عام 2018، تحدث يوري لوبراني، منسق الأنشطة الاسرائيلية في لبنان ابان الاحتلال، عن حياته الديبلوماسية، منذ أن كان، عام 1950، رئيساً لمكتب وزير الخارجية موشي شاريت، ثم مستشارا لدافيد بن غوريون وليفي اشكول، وصولاً الى منصب سفير في ايران، عام 1978. وحين سئل عمن تبقى من أصدقائه الساسة في لبنان، لن نذكر الوصف المشين الذي اطلقه عليهم. نختار الوصف الآخر “عشاق الكراسي”، الجاهزون لـ”بيع أرواحهم بالمزاد العلني”.
عقدة لبنان رافقت لوبراني حتى مماته. اللافت هنا أن من بين النصائح التي اسداها الى ابنته التي ورثته في العمل الديبلوماسي “اذا اشار اليك، أحدهم، باصبعه للنظر الى لبنان، كوني في منتهى الحذر. انه القنبلة تحت ربطة العنق”. وحين اندلعت حرب تموز 2006، استغرب الطريقة التي خاض فيها ايهود أولمرت تلك الحرب “كمن يصرّعلى أن نحرق ما تبقى من اصابعنا هناك”.
ساسة، وجنرالات، وصحافيون، يسألون الآن “ألا يكفي التزلج على النيران في غزة، لنمضي الى التزلج على أرصفة جهنم؟”. بالتأكيد ان جهنم تنتظرهم في لبنان. لكن ديناصورات اليمين في اسرائيل لم يتوقفوا عن التهديدات اليومية باعادة بلادنا مائة عام الى الوراء، بعدما أصابهم ذلك النوع من الجنون لمحاولة اجتثاث كل قوة يرون فيها خطراً على وجودهم، بالدرجة الأولى، وعلى الدولة العبرية، بالدرجة الثانية.
لا مجال للاتهام لأي سياسي لبناني بصلة مباشرة مع اسرائيل، وان كانت هناك في واشنطن أسماء باتت معلنة على علاقة وثيقة باللوبي اليهودي. ولكن في الساحة السياسية من يرى، ومن يجاهر، بأن المقاومة هي الخطر الأكبر على البلاد، دون أن يرف لهم جفن أمام المذابح اليومية لأولئك البرابرة على حدودنا.
حكومة نتنياهو تريد رئيساً من هذا النوع الذي خبرناه سابقاً، وبالشعار الكاريكاتوري “قوة لبنان في ضعفه”، وهو ما ترغب فيه اسرائيل التي طالما تطلعت، ومنذ نظريات زئيف جابوتنسكي، الى تمزيق لبنان، وسوريا، والعراق، وهلمجراً…
أركان المنظومة السياسية، الذين يتوجسون على مصيرهم بعد الحديث عن الأعاصير التي قد تهب على المنطقة، ليسوا مستعدين للتنازل عن عقدهم، وعن نرجسيتهم، من أجل تبريد الوضع السياسي، والوضع الطائفي. التأجيج على قدم وساق، بعدما تركوا للمصالح الخارجية المتناقضة مهمة صناعة رئيس الجمهورية.
الطريف أن كل طرف، وقد انخرطت المقامات الدينية في هذه المعمعة، يتهم الطرف الآخر بالمسؤولية عن تعطيل الاستحقاق الدستوري، وان كان من البديهي القول، ما دام أصحاب الشأن قد سلموا مفاتيح الدولة الى قوى اقليمية، أو الى قوى دولية، ان الضبابية الراهنة، ان لم تكن الفوضى الراهنة، على المستوى الاقليمي والدولي، تحول دون انجاز العملية الانتخابية في وقت قريب.
المنطقة كلها داخل الاحتمالات. حتى لو حدثت المعجزة، وانتخب رئيس للجمهورية، هل يمكن له أن يتعدى دور الشاهد، أو المشاهد، لما يحصل في هذه الأدغال. نوابنا الأعزاء لن ينتخبوا أتيلا الجبار، ولا الحجاج بن يوسف. رأس من بين تلك الرؤوس الضائعة (أم الضالة)؟
لطالما وصفنا تحركات بعض الكتل النيابية بالفقاعات التلفزيونية. غواية الشاشات التي وصفها ريجيس دوبريه بـ “لوثة الغوغاء”. سفراء اللجنة الخماسية، بكلماتهم العائمة، يريدون القول “لكأننا هنا شهود زور”.
لبنان وقد تحول الى أحجية (سياسية واستراتيجية) في شرق أوسط ولدت فيه الاسئلة الكبرى التي ظلت، وتظل، دون أجوبة…
(سيرياهوم نيوز ١-الديار)