- وليد شرارة
- الجمعة 22 كانون الثاني 2021
صحيح أن الصين لا تزال تشكّل، من منظور النُخَب الأميركية، التهديد الاستراتيجي الأكبر لموقع الولايات المتحدة الريادي في العالم، غير أن الحزب الديموقراطي، مدفوعاً بنظريّة الخطر المتعاظم الذي تمثّله روسيا بوتين التي يروّجها البعض، يضع في حساباته هذه «المخاطر»، ويبدو متّجهاً في طريق إعادة إحياء استراتيجية احتواء ضدّها، تستلهم تلك التي سادت إبّان الاتحاد السوفياتي
يحضّ بعض الخبراء على العودة إلى استراتيجية الاحتواء ضدّ روسيا، تستلهم تلك التي اتُّبعت ضدّ الاتحاد السوفياتي
لكن القادة السياسيين والعسكريين الأميركيين، وكذلك الخبراء والباحثين، توقّفوا عن استخدام كلمة «احتواء» للإشارة إلى هذه الوقائع، ظنّاً منهم، ربّما، بأن القيادة الروسية ستتأخّر في إدراك ما يحاك ضدّ بلدها. لكن الأخيرة، ومنذ حرب كوسوفو تحديداً في عام 1999، أوضحت، في أكثر من مناسبة، أنها تَعي تماماً ما يجري، وتتحرّك لمواجهته. الجديد اليوم، أن أكاديمياً أميركياً، وسفيراً سابقاً لبلاده في روسيا بين عامَي 2012 و2014، هو مايكل ماك فول، لا يتردّد في استخدام مفهوم الاحتواء في مقالة خصّصها لتناول السياسة الواجب تبنّيها تجاه روسيا، وفي ضرورة أن تكون استمرارية لتلك التي طرحها جورج كينان، السفير الأميركي في موسكو في بداية الخمسينيات، حيال الاتحاد السوفياتي. ففي مقالة على موقع «فورين أفيرز» بعنوان «كيفية احتواء روسيا بوتين»، يرى ماك فول أن الاعتقاد الرائج في الولايات المتحدة بأن روسيا قوّة منحدرة مجافٍ تماماً للحقائق. هو يشير إلى أنها عادت إلى المسرح الدولي، على رغم ديموغرافيتها المتراجعة وارتدادها عن الإصلاحات الليبرالية، «كإحدى أقوى الدول، مع قدرات عسكرية وسيبرانية واقتصادية وأيديولوجية أمتن ممّا تظنّه غالبية الأميركيين». هي إحدى القوّتَين الأعظم في الميدان النووي، الذي استثمر فيه بوتين بقوّة في السنوات الماضية، وكذلك في تطوير القدرات العسكرية التقليدية لجيشه. هذا الأخير يمثّل تهديداً لأوروبا، ويتفوّق على الـ»ناتو» في مجالات كعدد المدرّعات وصواريخ «الكروز» التي يمتلكها، وعديد قواتة الموجودة على الحدود مع دول الحلف. لجأ بوتين أيضاً إلى الاستثمار المكثّف في أسلحة الفضاء، وإلى تنمية القدرات الاستخبارية والسيبرانية، كما اتّضح بعد عملية التجسّس الضخمة التي شهدتها الولايات المتحدة أخيراً. لروسيا عدد من الحلفاء أقلّ مما لدى الولايات المتحدة، لكن علاقاتها مع الصين نمت نوعياً، بما فيه في المجال العسكري. بتقدير ماك فول، فإن روسيا هي القوّة العسكرية الثالثة على المستوى الدولي، واقتصادها هو الحادي عشر من حيث الحجم. وقد أتاحت التأميمات، والتدخّل المتزايد للدولة في الاقتصاد، للرئيس الروسي موارد أكبر يستخدمها لاتّباع سياسة خارجية هجومية. هو عمل أيضاً على امتلاك أدوات القوّة الناعمة، فموازنة قناة «روسيا اليوم» وحدها تصل إلى 300 مليون دولار سنوياً، وعلى إنشاء مؤسسات وشركات «رديفة» لتلك الرسمية، كـ»معهد حماية القيم الوطنية»، و»الوكالة الدولية للتنمية السيادية»، و»جمعية البحث الحرّ والتعاون الدولي». توظف هذه الأدوات، وفقاً للسفير الأميركي الأسبق، للترويج لتوليفة بوتين الفكرية ــــ السياسية، القومية والأرثوذكسية، والمعادية للديموقراطية وللغرب. هو يصرّ، إضافة إلى ذلك، على أن القناعة بأن الرئيس الروسي يؤمِن بالمقايضات خاطئة أيضاً، لأنها تغفل أهمية البعد الأيديولوجي في مواقفه وسياساته. هو يقدم نفسه على أنه زعيم العالم المحافظ غير الليبرالي، ولا يتراجع أمام الإقدام على مغامرات خطيرة دون حساب الأكلاف المحتملة: ضمّ القرم وغزو شرق أوكرانيا، التدخل في الشرق الأوسط، التدخل في الانتخابات الأميركية، اغتيال المعارضين،الخ… «هو أكثر تحريفية وشراسة من نظيره الصيني»، بحسب ماك فول، لأنه «يريد تدمير النظام الدولي الليبرالي». وعند الانتقال إلى التوصيات، يحرص الدبلوماسي السابق على الانطلاق ممّا كتبه كينان في عام 1947، وهو أن «العنصر الرئيس في أي سياسة حيال روسيا هو احتواء طويل الأمد وصبور، ولكن حازم ويقظ، لنزعتها التوسعية». تتبع سلسلة من الاقتراحات تتعلّق بتعزيز المناعة الداخلية الأميركية ضد الاختراقات الأمنية والسيبرانية لروسيا، وبسنّ تشريعات جديدة لكشف استثماراتها عبر شركات وهمية في أخرى أميركية وفي مجال العقارات، والتعاون مع الحلفاء في العالم لمكافحة تبييض الأموال. أما الاحتواء على المستوى الدولي، فإن الردع هو حجر الزاوية فيه. يشيد ماك فول بالجهود التي بذلتها الدول الأعضاء في حلف الـ»ناتو» لتطوير قدراتها في مقابل روسيا، وجهوزيتها لإرسال 300,000 جندي و30 سفينة حربية و30 سرباً جوياً إلى دول الحلف الواقعة في أقصى الشرق خلال 30 يوماً. لكنه يضيف إن المطلوب هو المزيد من القوات البرية للتصدي لهجوم روسي محتَمل في الجبهة الجنوبية الضعيفة للحلف وتجديد القيادة الفعلية الأميركية له ومساعدة الدول غير الأعضاء التي تعاني من العدوانية الروسية، كأوكرانيا، على أن تصبح آمنة ومزدهرة، لتكذيب «مزاعم» بوتين عن الديموقراطية، ولكي تتحوّل كييف إلى نموذج إلهام لتغيير ديموقراطي في روسيا نفسها.
أسئلة كثيرة يمكن أن تطرح عن خلفيات مثل هذا الرأي وإمكانية وضعه موضع التنفيذ في ظلّ التراجع الكبير في القدرات الأميركية والشرخ الداخلي ووجود تحدّيات دولية أخرى بالنسبة إلى واشنطن. لكن الأكيد هو أن أبلسة الرئيس الروسي تندرج ضمن مسعى، كثيراً ما لجأت إليه الإدارات الأميركية السابقة، وهو اختراع الأعداء و/ أو تضخيم التهديدات الخارجية، لمحاولة توحيد الجبهة الداخلية، المنقسمة بشكل لا سابق له حالياً، ولمّ شمل الحلفاء المذعورين من مشهد ضمور هيمنة الغرب وصعود «الآخرين» غير الغربيين.
(سيرياهوم نيوز-الاخبار)