في خطاب ألقاه خلال الاجتماع الموسع للجنة المركزية لحزب البعث العربي الاشتراكي الذي عقد أمس في قصر المؤتمرات بدمشق حدّد الرئيس السوري بشار الأسد توجّهات حزب البعث المستقبلية في مواجهة التحديات الداخلية والقضايا الإقليمية والدولية، وإذ جاء كلام الأسد تتويجا لانتخابات وعملية إصلاح داخل حزب البعث أسفرت عن انتخاب اللجنة المركزية للحزب وكذلك القيادة المركزية.
وهي توصيفات جديدة للمراتب القيادية في البعث، بعد أن كانت القيادة القطرية هي التشكيل القيادي الذي يترأسه الأمين القطري المساعد والذي سيحل محله منصب أمين سر القيادة المركزية، وقد انتخب الرئيس الأسد بإجماع أعضاء اللجنة المركزية كأمين عام لحزب البعث.
ويُمكن توصيف العملية على صعيد حزب البعث أنها غير مسبوقة في تاريخ الحزب منذ نشأته عام 1947.
وكان الرئيس الأسد حاسما ومن خلال خطابه أمام اللجنة المركزية لحزب البعث، في الرد على التقارير والتكهنات التي ربطت بين عملية الإصلاح داخل حزب البعث وبين التحولات والتأثيرات والطلبات الخارجية.
“فليس لأن هناك ظروفاً خارجيةً استدعت ذلك، كما يحلو للبعض أن يحلل من وقت لآخر، أو لأن هناك ضغوطاً، والغرب أساسا يئس منذ سنوات طويلة من الضغط على سورية” يقول الأسد.
وبقدر ما كانت رؤية الأسد حول القضايا الداخلية مفصلية وهامة وترسم ملامح المرحلة الجديدة للحزب والدولة في البلاد، فان محددات الرؤية السورية في خطاب الأسد للأحداث في الإقليم والعالم كانت الأهم لجهة تثبيت الأسد باصرار موقع سورية وتموضعها في الإقليم، والتمسك بدورها التاريخي المنحاز للقضايا العربية وعلى راسها القضية الفلسطينية ونظرتها لمفهوم العروبة باعتباره هوية الدولة وأساس فكر حزب البعث وهذه العروبة الحضارية كما سماها الأسد لا تتعارض مع حالة التنوع الديني والعرقي للشعب السوري بل تزيده غنى حسب توصيفه.
وفي تشخصيه لتحوّلات الرأي العام في الغرب تجاه القضية الفلسطينية والنظرة الى إسرائيل، يرى الأسد ان المنظومة الغربية تشعر اليوم بحالة من الرعب والهلع نتيجة التغيرات التي تحدث داخل بنية هذه المنظومة.
أما بالنسبة لمنطقتنا فيرى الرئيس الأسد “أن الحرب على غزة فضحت حقيقة الكثير من الأنظمة، وميّزت بين المواقف الحقيقية والشكلية، وميزت الصادق من المنافق، وجعلت الموقف من القضية الفلسطينية هو المرجع في تقييم تلك المواقف، فالموقف من القضية الفلسطينية هو اليوم الذي يرفع أشخاصاً ودولاً، وهو الذي يهز العروش”.
واختار الأسد النموذج التركي المتمثل بموقف الرئيس رجب طيب أردوغان واعتبر الأسد “أن أردوغان تذاكى على شعبه وأعتقد بأنه يستطيع أن يخدع الشعب التركي ويهاجم “إسرائيل” بلسانه ويدعمها بيده، ولكن الشعب التركي لقّنه درساً كبيراً في الانتخابات”.
ولم يغفل الأسد المرور على جوهر الحرب على سورية عبر الإشارة إلى ازدواجية الولايات المتحدة والى تحرك من سماهم الخونة لمحاسبة سورية داخل الكونغرس الأمريكي وعن موقف المليشيات والفصائل المسلحة التي قاتلت داخل سورية من الإبادة الإسرائيلية للشعب الفلسطيني.
وقال الأسد “لم نر الخونة يذهبون كالقطعان إلى الكونغرس لكي يطالبوا بقانون لمحاسبة “إسرائيل”، هم ذهبوا كالقطعان من أجل قانون محاسبة سورية، لا توجد لدينا مشكلة، نحن نقبل أن يكون هناك قانون لمحاسبة سورية في الكونغرس، ولكن أن يعملوا بالتوازي من أجل قانون لمحاسبة “إسرائيل”، طبعاً هذا كله عبارة عن خيال وأحلام، لم نسمع بثيران الثورة الذين سموا خطأ بالثوار، لم نسمع أنهم أطلقوا صاروخاً واحداً من أجل كرامة أهل غزة، لم نسمع أيضا تصريحاً أو تظاهرة مع لافتات دعماً لهم، كل هذا ليس بجديد علينا، معروف لنا ولكم ولكل سوري، ولكن كل ما يحصل يثبت كل ما قلناه منذ الأيام الأولى للحرب على سورية، القضية هي قضية عمالة وخيانة.
ومن اللافت أن الرئيس السوري في خطابة اختار نموذج غزة واليمن واعتبر أن كلا النموذجين قدّما دروسا للعرب عموما وللسوريين بشكل خاص. واعتبر الأسد أن الوضع في فلسطين واليمن اصعب بكثير من الوضع في سورية، ومع ذلك قدموا دروساً في العزة والكرامة، في الشهامة والإرادة، وفي حب الوطن، وهذه العناصر لوحدها من دون وجود إمكانيات حقيقية حولت اليمن وغزة، وإذا أردنا أن نقول فلسطين بشكل عام، ليس إلى قوة إقليمية بل إلى قوة عالمية حقيقية فرضت نفسها اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، تمكنوا من ذلك لأن فكر العمالة لم ينتشر، ولأن عقيدة الهزيمة لم تزدهر عندهم.
ويذهب الأسد من خلال هذا العرض إلى التأكيد على أن موقف سورية ثابت تجاه القضية الفلسطينية منذ عام 1948، لكن الجملة الأكثر وضوحا وجرأة من الأسد هي قوله ان سورية بكل الظروف التي مرت بها تاريخيا من انقلابات وحروب واستقرار وغيرها، لا يجرؤ مسؤول في سورية على التنازل تجاه القضية الفلسطينية، وبذلك ربط الأسد موقفه الثابت بالتاريخ السوري وبزعماء سورية عبر الحقب، ليغلق الباب تماما على اية محاولات وضغوط قد تسعى الى تجريب تليين موقف سورية او ابتزازها. ويذهب الأسد في صلابة الموقف الى الحد الأقصى بالقول “لا شيء يبدل موقفنا أو يزيحه مقدار شعرة، وكل ما يمكن لنا أن نقدمه ضمن إمكانياتنا للفلسطينيين أو لأي مقاوم ضد الكيان الصهيوني سنقوم به دون أي تردد، وموقفنا من المقاومة وتموضعنا بالنسبة لها كمفهوم أو كممارسة لن يتبدل، بالعكس هو يزداد رسوخاً، لأن الأحداث أثبتت أن من لا يمتلك قراره لا أمل له بالمستقبل، ومن لا يمتلك القوة لا قيمة له في هذا العالم، ومن لا يقاوم دفاعاً عن الوطن فلا يستحق وطناً بالأساس، فالخضوع يعطي شعوراً كاذباً بالأمان، وربما بالقوة وأحيانا بالوجود أو بالكينونة، لكن إلى حين، إلى حين ينتهي هذا الدور وتنتهي المهمة المطلوبة، ليتم بعدها الاستغناء عن الأشخاص وعن الدول وعن الأوطان، وعندما يتم الاستغناء عن الأوطان”.
مواقف الأسد ومواقف سورية ليست جديدة، لكن تبرز أهمية ما قاله الأسد اليوم أن يأتي بعد حرب طاحنة على سورية وفي ظل حصار خانق أمل البعض في أن تكون لنتائجه تأثيرا في مواقف سورية، لكن بقيت سورية هي سورية. وبقي الأسد يقاوم ويزداد عنادا في موقعه من قضايا بلاده وقضايا الأمة. هو خطاب يرفع معنويات الاحرار في منطقتنا العربية، ويطمئن نفوسهم حول دور سورية المستقبلي، وفي المقابل يحبط من ظن أن تدمير سورية وتشريد شعبها ومحاولة تفتيت أرضها وتجويع أهلها سوف يجعلها لاعبا هامشيا منكفئا عن الصراع.
سيرياهوم نيوز 2_راي اليوم