في عام 1770 ظهر مصطلح “السامية” لأول مرة في مدرسة غوتنغن في ألمانيا، وشاعَ كثيرا في القرن التاسع عشر من طرف الصحفي الألماني( فالهِم مار) أو (والهِم مار) بالإنكليزية، حيثُ استخدمه أول مرة عام 1879 للإشارة إلى كراهية اليهود وحملات العداء لهم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، في وسط أوروبا. وهو مشتق من اسم “سام” أحد أبناء نوح الثلاثة.
ومعروف في التاريخ القديم أن الساميين هم الشعوب الساكنة في شبه الجزيرة العربية، وفي بلاد النهرين (العراق القديم) وفي بلاد الشام، أو سورية الكبرى، وينتمي لهم الكنعانيون، ولكن التوراة أخرجت “الكنعانيين” من سلالة الساميين وضمّتهم إلى الحاميين، في تزوير فظيع للتاريخ والأصول العِرقية.
بعد الحرب العالمية الثانية، وما يُروِى عن إبادة اليهود من طرف النازية، وما فعلتهُ أوروبا، وليس العرب، بحقِّهم، بدأت أوروبا تُلصِق مصطلح معاداة السامية بالعرب والمسلمين، مع أن العرب ينتمون في أصولهم إلى الأقوام السامية، فكيف لهم أن يكونوا معادين لأنفسهم.
واستغلُّوا الصراع العربي الإسرائيلي، لاسيما بعد اغتصاب فلسطين عام 1948 وقيام إسرائيل فوق أراضيها، فأعادت الدوائر الغربية والأوروبية والصهيونية، إعادة صناعة هذا المصطلح لِتُطلِقهُ على كل من ينتقد إسرائيل، مُجرّد انتقاد وتتّهمهُ بمعاداة السامية، في استغلال بشِع لمسألة الهولوكوست. واختلطت الأمور ببعضها، فأصبح كل من يعادي الصهيونية، يُنظَر لهُ أنه يُعادي السامية. وهذا غير صحيح، فالصهيونية حركة استعمارية، وآيديولوجيا فاشية عنصرية، وعداؤها لا يعني مُطلقا معاداة اليهود كجماعة دينية، أو معاداة السامية، لاسيما أن السامية لا ينتمي لها فقط العبرانيون، بل والعرب. وفرعٌ من فروع العرب(وليس كل العرب) يمرُّون بإسماعيل ابن هاجَرْ، وأبوهُ إبراهيم. وهاجَرْ ضِرّة سارة زوجة إبراهيم الأولى. ثم أنجب إبراهيم من سارة إسحق، يعني أخ إسماعيل من أبيه. وإسحاق أنجب يعقوب، أي أن إسماعيل عمُّ يعقوب. ولذا يقول البعض عن العرب واليهود أبناء العم.
**
لن أنسى الكلمة(أو المُرافَعَة) التاريخية التي قدّمها السفير الراحل الدكتور كلوفيس مقصود (رحمه الله) في مجلس الأمن الدولي عام 1982، حيثُ كان سفيرا للجامعة العربية لدى الأمم المتحدة، وتحدّث بلغةٍ إنكليزية بليغة، عن أصل العرب وانتمائهم إلى السامية، وأنهُم هُم الساميون الحقيقيون، وفاضحا التزوير الصهيوني، واحتكارهم للسامية، حتى باتت السامية وكأنها تعني فقط اليهود.
**
في الكتاب الذي ترجمهُ المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بعنوان (صُنعُ معاداة السامية، أو تحريم نقد إسرائيل) من تأليف اليهودي الألماني(أبراهام مِلتسر) المولود في سمرقند بأوزبكستان، والناقد للسياسات الإسرائيلية في الشرق الأوسط، يشرحُ الكِتاب تاريخ نشوء مُصطلَح “معاداة السامية” وتحولاتهِ الدلالية، وتشويه الحقائق. وهو كتاب مهمٌّ جدا في هذا الخصوص.
وحقيقة الأمر، معاداة السامية، تعني عدم انتقاد إسرائيل مهما ارتكبت من فظائع وجرائم، وإبادة جماعية، وتهجير، وتطهير عرقي، وعنصرية، وأبارتايد، بحق الشعب الفلسطيني، أو أي شعب عربي.
ولذا بعد أن قامت (ثورة الطُلّاب) في الجامعات الأمريكية، تنديدا بجرائم إسرائيل في غزّة، وطالبت بوقف إطلاق النار، وامتدّت إلى جامعات أوروبية، وأمريكية لاتينية، كان أسهل شيء لقمع هذه الاحتجاجات الطلابية هو اتهامها بمعاداة السامية، التي تُحظِّرها كل التشريعات الأمريكية، والأوروبية. وهُم يعرفون تماما أن هؤلاء الطُلاب وقفوا ضد جرائم إسرائيل وليس للأمر علاقة بالسامية، أو بالدين اليهودي.
ولم يكتفوا بالتشريعات الأمريكية التي تمنع المضايقات المعادية للسامية، ولا بتعريف معاداة السامية كما اعتمدهُ التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست، وهذا عبارة عن منظمة دولية حكومية أسسها عام 1998 رئيس وزراء السويد “غوران بيرسون”، وإنما سارع مجلس النواب الأمريكي واعتمد مشروع قانون بأغلبية ساحقة وسّع فيهِ كثيرا تعريف معاداة السامية بعنوان (قانون التوعية بمعاداة السامية) وبانتظار موافقة مجلس الشيوخ ثم موافقة الرئيس ليصبح قانونا نافذا.
وبدا مشروع هذا القانون في محتواه وكأنّ حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة هي من وضعتهُ، وليس فقط منظمة إيباك أو منظمات الضغط الصهيونية الأخرى. فغير مسموح بالإتيان على ذكر إسرائيل بكلمة نقد واحدة، وإلا يُعتبَر ذلك معاداة للسامية.
وقبل تقديم مشروع القانون إلى مجلس النواب، قامت اللوبيات الصهيونية، والسلطات الأمريكية بحملةٍ مسعورةٍ ضد الطلاب المحتجين، ووصفوهم بالنازيين والإرهابيين والعملاء، وكل الاتهامات الكاذبة.
**
وقد اعترض (اتحاد الحريات المدنية الأمريكي) على التشريع وجادلَ أن لا حاجة لهذا القانون لأن القانون الفيدرالي الأمريكي (يعني على مستوى كافة الولايات الأمريكية) يمنع أي مضايقات تعادي السامية.
وأوضح الصحفي الأمريكي الشهير، والناشط السياسي اليميني “مات والش” أن هذا القانون يتعارض مع أحكام الدستور الأمريكي، وأنّ وصْف معاملة الجيش الإسرائيلي للفلسطينيين بالعنصرية، لا يجبُ اعتبارهُ معاداة للسامية. وأن التنديد بالتطهير العرقي الذي تمارسه الحكومة الإسرائيلية ضد الآلاف من العرب والمسلمين لا يجب أن يندرج ضمن خانة معاداة السامية أيضا.
بل حتى المنتقدون للقانون من قلب الكونغرس، يرون أنهُ يضعُ قيودا على حرية التعبير المكفول بالدستور. وهذا هو فقط ما يقوم به طلاب الجامعات الأمريكية، التعبير عن الرأي.
**
بل بعض أعضاء الكونغرس لجأوا إلى تهديد مدّعي عام محكمة الجنايات الدولية، عقِبَ تقارير عن احتمال إصدار مذكرات اعتقال بحق مسؤولين بارزين إسرائيليين على رأسهم بنيامين نتنياهو. وهذا تدخُّل سافر بعمل المحكمة، وتهديد فظيع لكل قواعد القانون الدولي، والقضاء الدولي.
**
ولذلك حينما يُصِرُّ نتنياهو على اقتحام رفح، ولا يكترث بكل المناشدات، والاعتراضات الدولية، والأممية، فهو يعرف أنهُ يستند على دعم مُطلَق من الولايات المتحدة، والكونغرس الأمريكي، تجعل حتى الرئيس بايدن يتراجع أمام نتنياهو، وكأن الكونغرس الأمريكي، والبيت الأبيض، يقولون:
إنتقِدوا الولايات المتحدة كما شئتم ولكن إياكم والاقتراب من إسرائيل.
والسؤال: لماذا كل هذه الوقاحة والفجور والتحدّي لدى نتنياهو، ولماذا كل هذا الموقف الأمريكي الداعم له؟.
الجواب لأن العرب متخاذلون. أصحابُ جعجعةٍ ولكن بلا طَحنٍ. نتنياهو يُدرِك ذلك، ولذا هو ماضٍ في اقتحام رفح.. أو بالأحرى لا يوجدُ عربا إلا بالاسم. وكما خَلقَ الغرب إسرائيل لتكون رأس حربة في المنطقة لخدمة مصالح الغرب، فقد خلق بالموازاة العديد من الأنظمة العربية لتكون هي أيضا حاميةٌ وخادمةٌ لمصالح الغرب إضافة لإسرائيل.
فإسرائيل وبعض الأنظمة العربية، يتقاطعان بذات المهمة: خدمة مصالح الغرب، وإلا ما فيه عروش.
حُسْنٌ خلقناهُ من ألوانِ قدرتنا… فكيف يكفرُ فينا من خلقناهُ ؟ (بدوي الجبل)..
كيف لِمن تصنَعهُ وتخلقهُ أن يكفر بك؟
وكيف لِمن خلقَتهم وصنّعتهم وحَمَتهم أمريكا، أن لا يخضعوا لإرادتها؟
وإرادة أمريكا في الشرق الأوسط يعني إرادة إسرائيل.. هكذا برهنت الحرب في غزة..
ولذا نتنياهو ماضٍ في جرائمه.. والرئيس الأمريكي ماضٍ في تهريجهِ. والعالمُ ماضٍ في مناشداتهِ.. والعرب ماضون في الفرجة على أطراف المسرح.. ولكن لم ينسوا أهل غزة من الدعاء..
ويا أمةً قد ضحكت من جُبنها وذُلِّها وخنوعها وضعفها وهوانها الأمم (المعذرة من المتنبي فقد عدّلتُ بيت الشِعر بما يتناسب مع زمننا هذا).
حفُّوا شواربكم.. وأرخوا لِحاكم.. وبهذا تُواجهون أعدائكم وتتميّزون عنهم وتُرضون الله.. فأليست غايةُ الدِّينِ أن تحفُّوا شواربكم كي تتميّزوا عن (المشركين)!؟ وبهذا التمييز يكون نصركم..
سيرياهوم نيوز 2_راي اليوم