كتب د.مختار
حملَ حزبُ البعثِ العربي الاشتراكي منذ تأسيسِه قضيةَ العروبةِ والهمَّ القومي على كاهلِه، وعدَّ قضيةَ فلسطينَ قضيةَ العربِ الأولى، وجعَلَ التضامنَ والأمنَ القومي العربي في صلبِ نضالِه، ومضى مدافعاً عن العروبةِ من محطةٍ إلى أخرى، وفي كلِّ مرةٍ كان يحدوه الأملُ لأن يكونَ الوضعُ العربي أفضلَ في المحطاتِ القادمةِ، وكان يستوعبُ المتغيراتِ الإقليميةَ والدوليةَ، ويتأقلمُ مع نتائجِها ويحاولُ أن يوائمَ بين الطموحاتِ والإمكانياتِ والتحدياتِ، وفي كلِّ تلك المراحلِ كان البعثُ يقودُ سوريةَ لمحاربةِ الأعداءِ بالنيابةِ عن الجميعِ، فإذا بالجميعِ يحاربُ سوريةَ نيابةً عن الأعداءِ، ويضعُ لها المعوقاتِ والعراقيل.
فهل رأى بعضُهم أنَّ ما تطالبُ به سوريةُ لتحصينِ الأمنِ القومي العربي همّاً يريدون التخلّصَ منه عندما تسنحُ لهم الفرصة.
في الحقيقةِ لم يعد الجوابُ مهمّاً لأنَّه كانت هناك فرصٌ تاريخيةٌ وضاعَت، والتي كانت ستؤدي إلى استعادةِ الحقوقِ العربيةِ المغتصبةِ، وستعودُ على العربِ بالخيرِ والفائدةِ لو اكتملَت، وسنتعرضُ في هذا المقالِ لبعضٍ من تلك المحطاتِ:
— كادَت سوريةُ البعث بقيادةِ القائدِ الخالدِ حافظِ الأسد أن تغيّرَ وجهَ التاريخِ في حربِ تشرينَ التحريريةِ عام 1973م الحدثِ الأبرزِ في التاريخِ العربي الحديثِ والمعاصرِ، لولا أن اعترى الجبهةُ المصريةُ ما اعتراها مما سُمّي “الوقفةُ التعبويةُ” التي أوقفَت الحربَ على الجبهةِ المصريةِ قبلَ أوانِها، والتي مهّدَت لمفاوضاتِ سلامٍ أفضَت إلى معاهدةِ “كامب ديفيد” في أيلول/ سبتمبر عام 1978م لتُجهضَ أهمَّ تعاونٍ عربي مشتركٍ، وتُخرجَ مصرَ من معادلةِ الصر.اعِ العربي — الص.هيوني، وتُخرجَ قضيةَ فل.سطينَ والأمنَ القومي العربي، والعروبةَ من دائرةِ اهتماماتِ الرئيسِ السادات.
وهنا لابدَّ لكلِّ منصفٍ أن يسجلَ لسوريةَ بقيادةِ البعثِ أنّها بذلَت أقصى إمكانياتِها لتحريرِ الأراضي الم.حتلةِ في هذه الحر.بِ، ومهما حاولَ المغرضون والموتورون أن يقلّلوا من شأنِ ما تحقّقَ تبقى حر.بُ تشرينَ من أنصعِ صفحاتِ التاريخِ العربي المعاصرِ شهدَ بها الأعد.اءُ قبلَ الأصدقاء.
سوريةُ البعث رفضتْ عرضَ وزيرِ خارجيةِ أمريكا هنري كيسنجر عام 1974م عندما عرضَ على القائدِ الخالدِ حافظ الأسد أن يعيدَ له الجو.لانَ كاملاً، مقابلَ خروجِه من معادلةِ الصر.اعِ مع إ.سر.ائيلَ، فكانَ جوابُه، سوريةُ آخرُ من يوقّعُ السلامَ مع إ.سر.ائيلَ، وبعد أن يوقّعَ العربُ كافةً، وتعودَ الحقوقُ الفلسطينيةُ والحقوقُ العربيةُ كاملةً.
— سوريةُ البعث دعمَت بقوةٍ منظمةَ التحر.يرِ الفل.سطينيةِ عندما حاولَ الملكُ الأردني حسين عام 1974م أن يصادرَ حقَّ تمثيلِ الشعبِ الفل.سطيني، فرفضَ الرئيسُ حافظُ ذلك، وطالبَ القمةَ العربيةَ المنعقدةَ في الرباطِ 26- 29 تشرين الأول/ أكتوبر 1974م بتبني قرارٍ يعدُّ منظ.مةَ التحر.يرِ الفل.سطينيةِ “الممثلَ الشرعي والوحيدَ للشعبِ الفل.سطيني”، وقد تبنّت القمةُ هذا القرارَ بالإجماعِ، وذهبَ شعاراً للمنظ.مةِ حتى اليوم.
عملَت سوريةُ البعث بعد خروجِ مصرَ عن الإجماعِ العربي وانطلاقِ مفاوضاتِ السلامِ بين إ.سر.ائيلَ والساداتِ، على تعويضِ الخللِ الذي سبّبَه خروجُ مصرَ من معادلةِ الصر.اعِ فشكّلَت جب.هةَ الصمو.دِ والتصد.ي عام 1977م، والتي ضمَّت سوريةَ والعراقَ والجزائرَ وليبيا واليمنَ الجنوبي، ومنظ.مةَ التحريرِ الفل.سطينيةِ، لكن أتَت ظروفٌ إقليميةٌ على غيرِ ما تشتهي سوريةُ وعطّلت هذا التحالفَ المهم.
— عملَت سوريةُ على منعِ تقسيمِ لبنانَ إلى أربعِ دويلات إبانَ اندلاعِ الحر.بِ الأهليةِ عام 1975، وأسقطَت اتفاقَ 17 أيار، وكلّفَها هذا القرارُ كثيراً من الدماءِ والميزانياتِ من عام 1975م حتى العامِ 1989م، ووقفَ القائدُ الخالدُ على مسافةٍ واحدةٍ من الأعداءِ والحلفاءِ وتكلّلَت جهودُه بالنجاحِ بتوقيعِ اتفاقِ الطائفِ الذي أُقرَّ في22 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1989م، وبموجبِه أوقفَت الحر.بُ الأهليةُ اللبنانيةُ، وهذا الإنجازُ الهائلُ لسوريةَ بقيادةِ البعثِ سجّلَه المؤرخون بأحرفٍ من ذهبٍ رغمَ محاولةِ الكثيرين التعتيمَ عليه.
— سعَت سوريةُ بقوةٍ إلى تعديلِ ميثاقِ جامعةِ الدولِ العربيةِ بعد “كامب ديفيد” عام 1978م، وخروج مصرَ من الجامعةِ ونقلِ مقرِّ الجامعةِ إلى تونسَ، تعديلٍ يجعلُ الميثاق قادراً على مواكبةِ القضايا العربيةِ وتحصينِ الأ.منِ القومي العربي، ولتكونَ قراراتُها أكثرَ جديةً وأكثرَ إلزاماً للدولِ الأعضاءِ، واستمرَّ العملُ عليه مدّةَ عشرِ سنواتٍ، وعندما أصبحَ جاهزاً للإعلانِ عنه 1989م تعاونَت مصرُ العائدةُ حديثاً للصفِّ العربي ودولةُ قطر، على إجهاضِه، فهل سجّلَ المؤرخون لسوريةَ هذا الجهدَ الذي لو اكتملَ لغيّرَ كلَّ صيغِ العملِ العربي المشترك.
— سعَت سوريةُ البعث بقيادةِ القائدِ الخالدِ حافظِ الأسدِ إلى توحيدِ الوفودِ العربيةِ لمؤتمرِ السلامِ، بأن تذهبَ الدولُ العربيةُ سوريةُ ولبنانُ والأردنُ ومنظ.مةُ التحريرِ الفل.سطينيةِ إلى مؤ.تمرِ مد.ريدَ للسلامِ في 30 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1991م بوفدٍ واحدٍ، وسعَت إلى أن تجتمعَ تلك الوفودُ وتنسّقَ مواقفَها قبلَ كلِّ جولةٍ من المفا.وضاتِ لكي لا يتمَّ التفرّدُ بها بلداً تلو الآخر، ونجحَت في ذلك لبعضِ الجولاتِ، وقالت سوريةُ بكلِّ وضوحٍ للأشقاءِ العربِ اطمئنّوا نحن سنكونُ آخرَ من يوقع، لاتدعوا أحداً يخدعكم، وفوجئَت سوريةُ بخروجِ منظمةِ التحريرِ الفل.سطينيةِ عن التنسيقِ وفتحِها مساراً تفاوضياً سرياً منفرداً نتجَ عنه اتفاقيةُ أو.سلو، التي كان أولُ تعليقٍ للقائدِ الخالدِ حافظِ الأسد عليها: إنَّ كلَّ بندٍ بهذه الاتفاقيةِ يحتاجُ إلى اتفاق” وأثبتَت الأيامُ صحةَ ذلك، وكلُّنا شهودٌ على فشلِها اليوم.
— لحقَت الأردنُ بمنظ.مةِ التحر.يرِ وانفردَت بتوقيعِ اتفاقِ واد.ي عر.بة في 26 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1994م، فهل سجّلَ التاريخُ لسوريةَ أنَّها بذلك عملَت أقصى ما يمكنُ مع الأشقاءِ العربِ لعدمِ التفريطِ بالحقوقِ العربيةِ وهم من اختاروا الانفرادَ والتفريط.
— سوريةُ البعث بقيادةِ القائدِ الخالدِ حافظ وقفَت ضدَّ غزوِ العراقِ للكويت، ورفضَ الرئيسُ حافظُ الأسدِ عرضاً من الرئيسِ صدام حسين، نقلَه الملكُ الأردني حسين مفادَه حدّدْ المبلغَ الذي تريدُه مهما كان كبيراً مقابلَ موافقتِك على ضمِّ الكويتِ واعتبارُه خطوةً وحدويةً في إطارِ أهدافِ حزبِ البعثِ الوحدويةِ. ورفضَ الرئيسُ حافظُ الأسد ذلك وقالَ هذا احتلا.لٌ وليس خطوةً وحدويةً، والبعثُ لا يؤمنُ بضمِّ بلدٍ عربي بالقوةِ فهذا يسيئُ إلى فكرِ البعثِ وأهدافِه. فهل يتذكرُ الأشقاءُ في الكويتِ ذلك وهل يعترفون أنَّه لولا فضلُ سوريةَ والرئيسِ الأسد لما عادَت الكويتُ إلى سابقِ عهدِها أبداً.
وبالمناسبةِ عندما أُخبِرَ القائدُ الخالدُ حافظ الأسد أنَّ هناك مواطنين كويتيين أصبحوا عالقين في سوريةَ ولا يعرفون أين يذهبون ولم يعد معهم أيّةُ مبالغَ ليعيشوا منها أمرَ بفتحِ المدارسِ والجوامعِ ليسكنوا فيها، وسمحَ لمن معه سيارةٌ خاصةٌ أن يعملَ عليها كسيارةِ أجرةٍ ويقاسمَ المواطنَ السوري لقمةَ عيشِه، فهل يتذكرُ الأشقاءُ الكويتيون ذلك “أم على قُلُوبٍ أقفالُها” وعلى أعينِهم غشاوة.
— سوريةُ البعث الدولةُ العربيةُ الوحيدةُ بقيادةِ الرئيسِ بشارِ الأسد وقفَت ضدَّ الغز.و “الأمريكي البريطاني” للعراقِ عام 2003م، من منطلقٍ قومي عروبي، يومَ لم يكن أحدٌ يجرؤ أن يقولَ كلمةَ لا لأمريكا، ورغمَ الخلافِ الذي كان قائماً بين الرئيسِ العراقي صدام حسين والبعثِ في سوريةَ. ولاحقاً استقبلَت سوريةُ البعث حوالي 3.5 مليون عراقي فتحَت لهم المدارسَ والجامعاتِ مجاناً وتقاسمَت معهم الرغيفَ “المدعومَ” دون أن تطلبَ من أحدٍ مساعدةً أو تبني للعراقيين الخيامَ على الحدودِ، وهذا القرارُ بعثيٌّ بامتيازٍ ومن منطلقٍ عروبي، فهل من يعتبر.
يرى بعضُهم أنَّ انفلاتَ العقدِ العربي وابتعادَ العربِ عن بعضِهم، والتخلي عن القضيةِ الفل.سطينيةِ، والذهابَ إلى التط.بيعِ، وهذا التراجعَ الكبيرَ بالعملِ العربي المشتركِ، وانكشافَ الأمنِ القومي العربي هو بسببِ انشغالِ سوريةَ بالحر.بِ الكو.نيةِ عليها، ويرى أن سوريةَ كانت تجمعُ العربَ وتصلّبَ موقفَهم، وكانوا يلبّونها ولو بدافعِ الخجلِ، وكأنَّ من خطّطَ وساهم ونفّذَ هذه المؤ.امرةَ على سوريةَ كان يريدُ الوصولَ الى تغييبِ الدورِ العروبي السوري الرائدِ وتغييرِ توجهِها لكي لا يبقى أحدٌ يطالبُهم بواجبِهم القومي، وكأنّهم يريدون إنزالَ الواجبِ العروبي عن كاهلِهم ويتخلصون من أعبائِه، وممن يطالبُهم به.
اليومُ ينهضُ البعثُ في سوريةَ من جديدٍ بقيادةِ السيد الرئيسِ بشارِ الأسد وبرؤيةٍ جديدةٍ وتوجّهٍ جديدٍ، ووعي للمتغيراتِ، #وقيادةٍ_مركزيةٍ_جديدةٍ اختير أعضاؤها بعنايةٍ فائقةٍ، وهم على درجةٍ من الكفاءةِ والنزاهةِ والخبرةِ المهنيةِ والاختصاصيةِ، بعثَت الأملَ لدى شرائحِ المجتمعِ السوري من البعثيين وغيرِهم بنهوضِ سوريةَ من جديد، بالتعاون مع الأحزاب والقوى الوطنية السورية الأخرى.
(سيرياهوم نيوز ٢-صفحة الكاتب)