جلنار العلي
اعتبر عضو مجلس إدارة جمعية العلوم الاقتصادية الدكتور عامر خربوطلي، أن الأزمة القاسية التي مرّت بها سورية أدت إلى تداعيات اقتصادية غير مسبوقة كانخفاض معدلات النمو بشكل غير مسبوق وتواضع الناتج المحلي، وانخفاض قيمة العملة الوطنية والعجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات، تحّتم على الجهات المعنية الخوض بتحديات كبيرة لإحداث اختراق تنموي محلي ومن محركات ذاتية لتجاوز ما يمر به البلد، ولتحقيق الانتعاش الاقتصادي المنشود في ظروف شديدة التعقيد وفي ظل الإمكانات المحدودة.
وفي محاضرة ألقاها يوم أمس في ثقافي أبو رمانة بعنوان: «دور دراسات الجدوى الاقتصادية في تعزيز كفاءة الاستثمار في المشروعات الناشئة»، حاول خربوطلي مقاربة الحالة السورية من خلال قول للاقتصادي النمساوي «جوزيف شومبيتير» إن أحد أسباب التخلف وتباطؤ النمو هو عدم ظهور المنظمين أو المبادرين أو رواد الأعمال، الراغبين باستغلال الفرص الاستثمارية وابتكار كل ما هو جديد، حيث إن رائد الأعمال يعد المحرك الأول للنمو الاقتصادي على المدى الطويل لأنه يستطيع إيجاد مشروع جديد وتطوير سلعة معينة أو خدمة جديدة، وهذا الأمر يحول دون دخول الاقتصاد الكلي في دوامة الجمود والانكماش.
وأكد أن المستثمر يواجه عند البدء بإقامة مشروع جديد مجموعة من الأسئلة والبدائل والاختيارات وخاصة في حالات المنافسة وتكلفة رأس المال، حيث يسعى أن تكون القرارات على قدر كبير من الجدوى والدقة والفاعلية، وهذا ما يتطلب أن يكون هناك دراسة للجدوى الاقتصادية للمشاريع لتقدير مدى نجاح الفكرة الاستثمارية ومعايير ربحيتها، على اعتبار أنها خلاصة تفكير منطقي متسلسل، وتشكل خطة اقتصادية متكاملة منذ التأسيس وحتى نهاية العمر الإنتاجي للمشروع، ولها أيضاً انعكاس على مستوى الاقتصاد الكلي لأنها تقيس معايير الربحية الاجتماعية أو القومية، ولها تأثير كبير في التشغيل والقطع الأجنبي والتقانة والمعرفة الفنية والبنية التحتية، وتؤدي إلى خلق فرص عمل مباشرة وغير مباشرة.
وسيلة للاستفادة من الموارد النادرة
وفي السياق، رأى خربوطلي أن دراسة الجدوى الاقتصادية تعد وسيلة للاستفادة القصوى من الموارد النادرة في البلاد، وهذا الأمر يتحقق من خلال عدة أمور، أولها: الحفاظ على الموارد المتاحة باستهلاك جزء بسيط ويسير من أجل الحفاظ على الموارد الضخمة التي قد تضيع جرّاء قيام مشروع غير مجد، وثانيها: دراسة البدائل المتاحة واختيار أحسن بديل يحقق أفضل عائد، وثالث أمر يتعلق بتحديد الحجم الأمثل للطاقة الإنتاجية للمشروع والطريقة المثلى للإنتاج، إضافة إلى تحديد الموارد التي تكون ذات خصائص معينة أو ذات ندرة وتحتاج إلى عناية خاصة.
وأشار خربوطلي إلى وجود عدة مشاكل تواجه دراسات الجدوى الاقتصادية، أهمها: صعوبة وضع معيار دقيق لتكلفة الاستثمارات الرأسمالية كالتدفقات النقدية سواء الخارجة أم الداخلة، وذلك لعدة أسباب منها ما يتعلق باختلاف السياسات الاقتصادية والاجتماعية والنقدية التي تضعها الدولة من فترة إلى أخرى، وعدم توافر البيانات والإحصاءات اللازمة لدراسة الجدوى وعن الفرص الاستثمارية، وتضارب المتاح منها إذا تم الحصول عليه من مصادر عدة، علماً أن هذه المشكلة الأخيرة تواجه معظم الدول النامية، حيث البيانات الإحصائية عن المتغيرات الاقتصادية هي بيانات قد تكون قديمة وغير كافية وغير دقيقة في بعض الأحيان.
ويضاف إلى المشاكل أيضاً طول المدة التي تستغرقها عمليات إنشاء وتنفيذ المشروعات الاستثمارية لتعدد الأجهزة المختصة بدراسة وإقرار هذه المشروعات، وصعوبة التنبؤ بالمتغيرات المؤثرة في تقييم العائد الاقتصادي للمشروع، نتيجة عدم استقرار السياسة الاقتصادية للدولة من ناحية أسعار الصرف وسياسة التجارة الخارجية والضرائب وغير ذلك.
معدلات حسم غير جاذبة
وأكد خربوطلي أن أي عملية لتوظيف الأموال ترافقها عادة درجة خطر معينة، لذلك فإن المستثمر يعطي المبلغ الذي يملكه الآن أهمية أكبر من المبلغ الذي سيحصل عليه مستقبلاً، ولهذا السبب يجب أن تغطي عملية الاستثمار على الأقل درجة المخاطرة والحرمان الآني من استخدام أمواله لإشباع حاجاته، لافتاً إلى وجود قاعدة استثمارية تسمى قاعدة القيمة الحالية أو تغير القيمة الزمنية للنقود، وتعتمد هذه القاعدة على حسم أو إرجاع الأموال المستقبلية لمعرفة قيمتها الحالية، وذلك بمعدل حسم مناسب يعبر عن أدنى عائد لا يقبل المستثمر الاستثمار دونه في وقت إعداد الدراسة، علماً أن هذا المعدل يعتبر مرتفعاً في الحالة السورية، فالمعدلات المعتمدة تتراوح بين 22-25 بالمئة، وهذا الأمر لا يمنح المشاريع قيماً حالية جاذبة للتدفقات المستقبلية.
واعتبر أن التقييم الصحيح للمشاريع الاستثمارية في سورية سيؤدي حتماً إلى مشاريع ناجحة ومستمرة تساهم لاحقاً في زيادة النمو الاقتصادي، وبالتالي زيادة الناتج المحلي الإجمالي والفردي وتعويض فاقد الأزمة، لذا فإن المطلوب جهود مضاعفة للاستثمار الأمثل المضاعف القيمة، مبيناً أنه لا أهمية لتوزيع الأدوار الاقتصادية بين القطاعين العام والخاص، حيث إن الأهمية تكمن فقط في إعطاء المهمة لمن يستطيع أداءها بأكبر قدر من الفاعلية والكفاءة، لافتاً إلى أن أي زيادة قد تحصل في الاستثمارات الخاصة بالمشاريع ذات الجدوى الجيدة، ستحدث مجموعة من ردود الأفعال، لأن شراء السلع الاستثمارية من آليات وتجهيزات ومواد أولية، سينتج عنه زيادة في دخول منتجي هذه المواد، وإذا أنفق المنتجون ثلاثة أخماس الزيادة الحاصلة في دخولهم، فإن هذا سيزيد من حجم الدخل الكلي الناجم عن الاستثمار الأولي، وتستمر موجة الزيادات في الدخل ما دام المنتجون ومقدمو الخدمات سيستفيدون من تلك الزيادة، وذلك بفعل الترابط بين سلاسل الأعمال والتوريدات.
معدلات نمو سالبة
وأوضح خربوطلي أن معدل النمو المتوقع في سورية هو 1.5 بالمئة، إلا أن النمو الحقيقي المسجل بين عامي 2019 و2020 كان سلبياً بنسبة 3.87 بالمئة، وذلك نتيجة عدم كفاءة الاستثمارات وتعثر بعضها وعملها بطاقات غير اقتصادية وعدم تحولها لنمو اقتصادي يساهم في زيادة الدخل الفردي.
ومن جهة أخرى، اعتبر خربوطلي أن الاقتصاد السوري يحتاج خريطة استثمارية مؤثرة ليس على المستوى الجغرافي أو القطاعي، وإنما على مستوى أولويات هذه المشاريع ما بعد التعافي المبكر، لافتاً إلى أنه لا يوجد منظومة دعم كافية لإنشاء مشاريع ريادية جديدة من ناحية التمويل والمعلومات والاستشارات والتدريب والضرائب، وهذا يؤثر في الاستثمار باعتباره محدد إعادة انطلاق الاقتصاد السوري وتخطي مرحلة التعافي المبكر وصولاً إلى مرحلة إعادة الإعمار، مشيراً إلى أن مناخ الاستثمار يحتاج إلى بيئة تشريعية ومالية وضريبية وتجارية وجمركية مرنة ومرحبة وغير معقدة وغير مكلفة.
ورأى خربوطلي أن دراسات الجدوى الاقتصادية في سورية لم تصل لأن تكون الوثيقة الأساسية لضمان التمويل بجميع أشكاله بعد إعادة تحليل الدراسة من جهات التمويل المختصة، لافتاً إلى أن الطاقات الإنتاجية غير الكاملة لأغلب المشاريع الاستثمارية الحالية بفعل نقص الطاقة والمواد والعمالة، لا تمنح المشروعات اقتصادات أو وفورات الحجم الكبير، وتجعل مؤشر التعادل الحرج مرتفعاً ما يزيد من تكاليف الإنتاج وبالتالي ارتفاع الأسعار وصعوبة المنافسة محلياً وخارجياً.
وتابع: «برأيي لا معنى لأي سياسات اقتصادية أو مالية أو نقدية أو تجارية إذا لم تؤد في النهاية إلى تحقيق معدلات دخل فردي أعلى مما هي عليه، فالسياسات ليست مطلوبة لذاتها بل لهدف أكبر وهو تحسين مستويات المعيشة، مطالباً بأن تؤدي السياسات المالية إلى تشجيع قيام استثمارات جديدة وضمان عدم إغلاق وهجرة المشروعات ورؤوس الأموال، وإعادة هيكلة القطاع العام الصناعي والخدمي ليصبح على أسس أكثر اقتصادية، ما يشكل محركاً ذاتياً جديداً للنمو الاقتصادي.
سيرياهوم نيوز1-الوطن