د.سومر صالح
نشأت الأحزاب السّياسية كظاهرة بهدف الوصول المنظم والقانوني لتولي السّلطة والمناصب العامة، وتنفيذ سياسات الدول بما يتماشى مع أهدافها وبرامجها وأيديولوجيتها، وهي ظاهرة حديثة نسبياً تعود إلى منتصف القرن التّاسع عشر تقريباً (1850)، ولنجاح هذا الهدف تحتاج حكماً إلى نجاح سابق يؤهلها لذلك وهو نجاح الحزب في حكم ذاته، وهو ما يعرف معاصراً بالتّخطيط الاستراتيجي للأحزاب، وهو ظاهرة معاصرة وراهنة مقارنةً بنشوء الأحزاب، ومن المفارقات المعاصرة في الأحزاب السّياسية التّي لديها الطموح لحكم الدول، أن غالباً ما تكون حكمها لبناها التّنظيمية سيئاً أو متعثراً، ولعلّ المشكلة الأكبر التّي تواجه الأحزاب كظاهرة سياسية هو عملها في بيئات سياسية واجتماعية متقلبة أو غير مستقرة، وفي حال عدم وجود مرونة حزبية كافية للتأقلم والاستجابة السّريعة لتلك المتغيرات، فغالباً ستواجه أزمة مع منتسبيها وبيئتها السّياسية، من حيث إضعاف الثّقة بقدرة هذا الحزب أو ذاك على تلبية طموحاتهم السّياسية والاجتماعية من حيث التّمثيل والحكم، ومعه لن يتسنى للأحزاب السّياسية أن تعد نفسها بالشّكل الكافي لمواجهة المطالب المجتمعية الجّديدة والتّغيرات الدّيمقراطية إلا من خلال امتلاك القدرة على التّطلع إلى المستقبل وتوقع التّطورات، وبناء تصورات عن الاستجابات الممكنة والعقلانية في آن، وإذا أرادت الأحزاب السّياسية الاستعداد بشكل مناسب للتطورات السّياسية المستقبلية، فيتعين عليها أن تستثمر في قوة تنظيمها وأسسه، ولا يمكن القيام بذلك إلا إذا كان الهيكل التّنظيمي للحزب السّياسي وعملياته يعكس بشكل مناسب المشهد السّياسي والاجتماعي سريع التّغير الذي يحيط به، وهذا يتطلب تحليل البيئة الاجتماعية والسّياسية المحيطة بالحزب بانتظام، والتّكيف الفعال مع التّطورات الجديدة باستخدام أدوات ومقاربات سياسية فعالية.
وعليه أصبح نجاح الأحزاب المعاصر مرتبط بجودة التّخطيط الاستراتيجي للأحزاب، وهو العملية التّي يحدد فيها قادة الحزب رؤيتهم للمستقبل، ويحددون أهداف الحزب بدقة، وغايات الحزب الكلية، ويتضمن تحديد التّسلسل الذي يجب أن تتحقق فيه تلك الأهداف حتى يتمكن الحزب من الوصول إلى رؤيته المعلنة ضمن فترات زمنية منطقية ومضبوطة، يبدأ التّخطيط الاستراتيجي للحزب بتحديد نقاط القوة والضعف والأولويات ونقاش إمكانية تحقيق نتائج أفضل باستخدام موارد أقل، وهذا التّخطيط الاستراتيجي يجب أن يكون بشكلٍ دوريٍّ، ينعكس ذلك في وثيقةٍ تقرّ وفق الأصول التّنظيمية، ويجب أن تراعي حملات الدعم النفسيّ داخل الحزب. لذلك فإنّ إشراك جميع المنتسبين للحزب في عملية التّخطيط الاستراتيجي يغرس الشّعور بالملكية والالتّزام بأهداف الحزب، وبالتّالي دفع الجهود الجماعية نحو تحقيقها، وهذا الأمر يتطلب نجاح ثلاث عمليات متكاملة:
أولاً: على المستوى التّنظيميّ البنائي، من خلال تعزيز الثقافة التّنظيمية كعناصر أساسية تدعم التّنفيذ الناجح للأهداف الإستراتيجية للأحزاب، وإعادة الاعتبار للفرقة الحزبية كنواة للتنظيم الحزبي تجمع أكبر عدد من المنتسبين، والاجتهاد في صياغة خطاب سياسي برامجي وواقعي يعبر عن هموم المجتمع واحتياجاتهم الرئيسة، والإسراع في عمليات التّحوّل الرقمي في التّواصل الحزبي الداخلي والمحيطي، فالوتيرة المتسارعة للتطور التّكنولوجيّ من دمج استراتيجيات التّحول الرقميّ أصبحت عنصراً حاسماً في التّخطيط الاستراتيجيّ، فالأحزاب المعاصرة تسعى لتحسين وظائفها الدّاخليّة باستخدام الأدوات الرّقميّة للتواصل داخل الحزب، ولتضخيم رسائل الحزب عبر منصات مختلفة وإجراء توعية أكثر كفاءة للنّاخبين، واستخدام التّفاعل عبر الإنترنت لتشجيع المشاركة.
ثانياً: على المستوى الفكريّ: عبر إحداث تعديلات في الرؤية والأهداف الكلية للحزب.
ثالثاً: على المستوى الرقابيّ الماليّ: من خلال نظام مالي شفاف من جهة، وتخطيط استثماري لإضافة موارد جديدة للحزب، بمعنى حوكمة الشّأن المالي للحزب.
راهناً، يمر البعث بمرحلة تاريخية في مسيرته الحزبية، سواء على المستوى التّنظيمي أو الفكري، تحديداً الديمقراطية المركزية (الفقرة ب- النظام الداخلي للحزب) والتّي تكرست مع انتخابات الفروع الحزبية واستئناسات الجهاز الحزبي لاختيار ممثلي البعث في السّلطة التّشريعية والإدارة المحلية في السّنوات الماضية، هذا وشكل اجتماع اللجنة المركزية الموسع الأخير (4/5/2024) نقطة تحول دافعة باتجاه تحديث الحزب تنظيمياً وفكرياً، وشكلت كلمتي الرفيق الأمين العام (الافتتاحية والختامية) منهجاً للعمل نابع من مقاربات الرفيق الأمين الشّاملة لواقع الحزب، وما هو المطلوب مستقبلاً من عمل هياكل الحزب كاملة، فكانت مقاربات الرفيق الأمين وتساؤلاته تعبيراً عن عقلية التّخطيط الاستراتيجي للرفيق الأمين العام، بجوانبها الثلاث: البنائية التّنظيمية- الإستراتيجية -الفكرية، والرقابة الشّاملة، الأمر الذي يحمّل اللجنة المركزية مسؤولية وأمانة نقل هذا التّخطيط إلى المستوى التّنفيذي العملي استجابة لجوانبه الثلاث من خلال إعادة النظر بالوضع التّنظيمي للحزب ومكاتبه ومؤسساته، وإعادة إنتاج الرؤى البعثية حول القضايا الداخلية والقومية، وحوكمة الرقابة الشّاملة سيما المالية منها.
وعلى أهمية ما تقدم، لكن واقع التّخطيط الاستراتيجي للأحزاب محكومٌ نجاحهٌ بأدواته، والبعث ليس استثناءً.
تنظيمياً اللجنة المركزية هي الهيئة العليا في الحزب المعنية بالتّخطيط الاستراتيجي وفق المعاني المشار إليها سابقاً (فهي تقوم مهام المؤتمر العام وصلاحيته المادة 2 من اللائحة الداخلية للجنة المركزية، هذه المهام والصلاحيات محددة بالمادة 12 من النظام الداخلي للحزب بوضع برامج الحزب وتوجهاته..)، وكما هو معلوم اللجنة المركزية ينبثق عنها القيادة المركزية المعنية إضافةً إلى مسألة التّخطيط الاستراتيجي بمسألة الإدارة الإستراتيجية للحزب فهي (السّلطة القيادية- التّنفيذية) في الحزب وفق نظام الحزب الداخلي (المادة 15)، والمقصود بالإدارة الإستراتيجية منهجاً توجيهياً للتخطيط، يركز على كيفية إنشاء الاستراتيجيات،الأمر هنا محسوم تنظيمياً، ولكن مسألة خلق أدوات مساعدة في عمليات (التّخطيط والإدارة الإستراتيجية) هي مسألة حاسمة في نجاح تلك العمليتين، أدوات قادرة على توفير معطيات دقيقة للواقع الداخلي والمحيطي للحزب، أدوات متخصصة في بناء الاستجابات الحزبية الممكنة، واستشرافية قادرة على رصد إرهاصات التّغيرات، قادرة بكليتها على حشد الطاقات الحزبية وغير الحزبية لإنجاح أهدف الحزب، يضاف إليها نظام مالي رصين يعزز شفافية العمل الحزبي من جهة، وقادر على إبداع استراتيجيات استثمار اقتصادية من جهة ثانية، تعزز الحضور الحزبي على الأرض، وتضمن استدامة العمل مهما تعقدت الظروف. ولضمان نجاح عملية التّخطيط الاستراتيجي يجب أن تكون عملية مستمرة تحتاج إلى تحديث وتعديل بشكل دوري، لتتماشى مع التّغيرات في البيئة الخارجية والداخلية للحزب.
ختاماً: المهمات الحزبية كبيرة والأمانة على قدر حجمها، فالقواعد الحزبية البعثية تنتظر النتائج المأمولة، وهذه مسؤولية كبرى أمام القواعد من جهة، والرفيق الأمين العام من جهة مقابلة.
سيرياهوم نيوز1-البعث