أحمد الفخراني
في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016، جمعت هيلاري كلينتون، مرشحة الحزب الديمقراطي، 66 مليون صوت، بينما جمع منافسها دونالد ترامب 63 مليون صوت، أي أقل منها بــ 3 ملايين صوت. وعلى الرغم من ذلك، فإنه أُعلن فوز ترامب برئاسة الولايات المتحدة.
لم يكن ذلك بسبب تزوير في النتائج، بل لأن الناخبين لا يصوتون للمرشح مباشرة، بل لمندوبين يتعهدون التصويت نيابةً عنهم، وهو ما يُعرف بالمجمع الانتخابي الذي يتكون من 538 مندوباً. وتمكن ترامب من الفوز بأصوات 304 مندوبين في مقابل 227 لهيلاري كلينتون.
هذه الحالة تكرَّرت من قبلُ، عندما خسر آل غور الرئاسة أمام جورج بوش الابن في انتخابات عام 2000، على الرغم من حصوله على عدد أكبر من الأصوات. وتكررت مرتين أخريين في تاريخ الانتخابات الأميركية، في عامي 1876 و1888، لأن الدستور الأميركي لا يمنح الناخبين الحق في اختيار رئيسهم مباشرة، والسلطة الحقيقية متروكة للمندوبين.
يعود هذا الارتباك إلى طبيعة النظام الانتخابي الأميركي المعقَّدة إلى درجة أن المواطن الأميركي، وفق ساندي مايسل، مؤلف كتاب “الانتخابات والأحزاب الأميركية.. مقدمة قصيرة جداً”، يعاني استيعابه بالكامل. إنه نظام راسخ منذ 237 عاماً، ومن المتوقع أن يستمر فترة.
المجمع الانتخابي الأميركي.. التاريخ وأسباب النشأة
من أجل فهم الأسباب والآلية التي يعمل بها المجمع الانتخابي في الولايات المتحدة، يجب العودة إلى دستور عام 1787.
كانت الولايات المتحدة آنذاك تتألف من 13 مستعمرة أو ولاية، يقطنها نحو 4 ملايين نسمة، موزعين على الساحل الشرقي للمحيط الأطلسي. وكانت المسافات الشاسعة وصعوبات التنقل والاتصالات تجعل الحملات الانتخابية أمراً غير عملي. كان من الصعب على المرشحين التنقل بين الولايات والتواصل مع الناخبين.
وفي ظل حكومة غير رسمية وعدم الثقة بالسلطة المركزية، وخصوصاً بعد حرب الاستقلال ضد بريطانيا، كان هناك تخوف من الوقوع تحت حكم ديكتاتوري. ومع وجود مشاكل اقتصادية وفوضى وإضرابات وتهديد بالحرب الأهلية والتفكك، وفي غياب أي دولة تنتخب رئيسها بصورة مباشِرة، وجد الآباء المؤسسون أنفسهم في منطقة مجهولة. لذا، قرروا كتابة دستور جديد يتناول قضايا، مثل تمثيل الولايات في الكونغرس، والتي أدت إلى خلافات حادة.
لاحقاً، توصلوا إلى تسوية عُرفت بـــ “تسوية كونيتيكت”، وتقضي بأن يتألف الكونغرس من غرفتين: مجلس النواب عبر تمثيل يعتمد على الكثافة السكانية، ومجلس الشيوخ بنائبين عن كل ولاية. لكن السؤال الأصعب كان كيفية انتخاب الرئيس. بعد مناقشات استمرت شهوراً، تم التوصل إلى حل وسط يتمثل باختيار مجموعة من الناخبين أو المندوبين لكل ولاية، يصوتون نيابةً عن الأميركيين وفقاً لأصوات الناخبين في الولاية، من دون إلزامهم بالتصويت للمرشح الذي اختارته الولاية.
مع الوقت ظهرت مشكلة في النظام الانتخابي الأميركي، فيما يتعلق بتمثيل أصحاب البشرة السوداء، الذين يتركزون في الولايات الجنوبية في إبان فترة العبودية. ففي عام 1787، كان “العبيد” يشكلون نسبة كبيرة من سكان هذه الولايات، ولم يكن لهم الحق في التصويت. وهذا أدى إلى “تسوية الخمسة في مقابل ثلاثة”، بحيث تم الاتفاق على احتساب كل 5 من “العبيد” كــ 3 أشخاص، في أغراض التمثيل الانتخابي.
وبحسب جورج إدواردز، أستاذ العلوم السياسية في جامعة تكساس، لم يرَ الآباء المؤسسون أنهم ابتكروا نظاماً مثالياً للانتخابات، بل وافقوا على فكرة المجمع الانتخابي حلاً وسطاً، لأنهم لم يتمكنوا من الاتفاق على فكرة أفضل.
تطور حق التصويت في الولايات المتحدة
في 4 شباط/فبراير عام 1789، تم انتخاب جورج واشنطن أولَ رئيس للولايات المتحدة، وكان الوحيد الذي انتُخب بالإجماع من جانب المجمع الانتخابي. في البداية، كان حق التصويت مقتصراً على أصحاب البشرة البيضاء، المعروفين في تلك الفترة بــ “الأحرار”، الذين يمتلكون ممتلكات، ونسبتهم 6% من السكان. لكن مع توسع الولايات الأميركية، أصبح التصويت حقاً لكل رجل أبيض يبلغ من العمر 21 عاماً وما فوق.
بعد الحرب الأهلية، تم التصديق على التعديل الــ 14 في عام 1868، الذي منح الجنسية الأميركية لكل من وُلد أو تجنس في الولايات المتحدة، بمن في ذلك “العبيد” السابقون. ومع ذلك، لم يحصلوا على حق التصويت حتى عام 1870. وحتى بعد ذلك التاريخ، واجه الأميركيون من أصل أفريقي عقبات كبيرة مدةَ قرن كامل، وخصوصاً في الولايات الجنوبية، التي وضعت عراقيل، مثل الضرائب على التصويت واختبارات الأمية، من أجل منعهم من حقهم في الانتخاب.
النساء أيضاً كنّ محرومات من حق التصويت حتى عام 1920، عندما تم تمرير التعديل الــ 19 الذي منحهن هذا الحق. ومع ذلك، استمرت القوانين، التي تقيّد حقوق التصويت للرجال والنساء من أصحاب البشرة السوداء. بقي الوضع على ما هو عليه حتى ستينيات القرن الماضي، بحيث اسفرت مسيرة حقوق مدنية في ألاباما، والعنف الذي واجهه المتظاهرون، إلى تشريع شامل لحقوق التصويت في عام 1965، والذي حظر العوائق، مثل اختبارات الأمية التي تحرم الأميركيين من أصل أفريقي والأقليات من حق التصويت.
الأحزاب وجماعات الضغط وتأثيرها في العملية الانتخابية
في النظام الانتخابي الأميركي، يحق لأي شخص تتوافر فيه الشروط الدستورية – وهي السن الذي لا يقل عن 35 عاماً، والميلاد في الولايات المتحدة، والإقامة فيها لمدة لا تقل عن 14 عاماً – أن يصبح مرشحاً رئاسياً. ومع ذلك، فإن الانتماء لأحد الحزبين الرئيسيين، وهما الحزب الديمقراطي أو الحزب الجمهوري، يُعد عاملاً حاسماً في تحديد فرص الفوز بالرئاسة، نظراً للدعم السياسي والمالي الذي يوفره الحزبان لمرشحيهما.
يميل الحزب الجمهوري إلى اليمين ويفضل سياسات تقليل الضرائب والحد من تدخل الحكومة في الاقتصاد، بينما يدعم الحزب الديمقراطي سياسات توزيع الثروة والبرامج الاجتماعية والرعاية الصحية. كل حزب له مواقف مختلفة تجاه قضايا مثل حق حمل الأسلحة والإجهاض والهجرة والسياسة الخارجية.
ويحتاج مرشحا الحزبين إلى جمع التبرعات لتمويل حملاتهما الانتخابية، وهنا تأتي أهمية لجان العمل السياسي (PACs) والــــ SUPER PACs، أو جماعات الضغط، وهي مجموعات تجمع التبرعات لدعم المرشحين والقضايا السياسية لتمرير لقوانين لصالحهم، ولكن من دون أن تتبرع مباشرة للمرشحين، وفقاً لقوانين التمويل الانتخابي وحرية التعبير، ويأتي على رأس جماعات الضغط هذه “اللوبي الصهيوني” أو “آيباك”، والشركات العملاقة كشركات النفط والأدوية. وغالباً ما يستفيد “الحزب الجمهوري” من مساهمات الـSUPER PACs نظراً لمواقفه الداعمة لمصالح الشركات الكبرى والأغنياء.
التأثير الاستراتيجي للولايات الصغيرة
لتحديد مرشح واحد يمثل كل حزب في الانتخابات العامة، تُجرى الانتخابات الحزبية والتمهيدية. الانتخابات الحزبية هي لقاءات ينظمها الحزب في كل ولاية لمناقشة البرامج ودعم المرشحين، ويحضرها الناخبون الأكثر انخراطاً في السياسة. يتم التصويت للمرشحين برفع الأيدي، وهذا يساعد في تصفية المرشحين واختبار قوتهم.
أما الانتخابات التمهيدية، فتُجرى على مستوى الولاية، وتسمح للناخبين بالتصويت مباشرة لمرشحي الحزب، وتُقسم إلى نوعين: مغلقة للناخبين المسجلين في الحزب فقط، ثم مفتوحة لأي شخص. هذه الانتخابات تُعد خطوة لتصفية المرشحين قبل المؤتمر الوطني للحزب، حيث يُحدد المرشح الرسمي للحزب لمنصب الرئيس ونائب الرئيس. ويصوت في المؤتمر مندوبون تم اختيارهم في الانتخابات التمهيدية والحزبية، ويحتاج المرشح لأغلبية هؤلاء المندوبين للفوز بالترشيح.
الولايات ذات العدد الكبير من المندوبين ليست وحدها التي تتحكم في الانتخابات. ذلك أن ولايات صغيرة مثل آيوا، والتي لديها فقط 6 أصوات في المجمع الانتخابي، تلعب دوراً حاسماً لأنها أول ولاية تجري فيها الانتخابات الحزبية. في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري عام 2016، بدأت العملية في آيوا بـ12 مرشحاً، وبعد الانتخابات انسحب 3، وبعد أسبوع في نيو هامبشير، انسحب 3 آخرون. أحياناً يظهر منافس غير متوقع يُعرف بــ “الحصان الأسود”.
في كانون الأول/ديسمبر عام 2007، كان الرئيس الأسبق باراك أوباما، عضو مجلس الشيوخ عن ولاية إلينوي، يترشح للرئاسة عن الحزب الديمقراطي ضد هيلاري كلينتون، المرشحة الأولى للحزب والأكثر شهرة. كانت متقدمة عليه بـ20 نقطة في استطلاعات الرأي الوطنية، لكن بعد شهر واحد فاز أوباما في المؤتمر الانتخابي في آيوا، مما رفع حظوظه وغيّر مصيره في استطلاعات الرأي وزاد فرصه في جمع التبرعات، ليتحول من منافس ضعيف إلى منافس قوي ويفوز في النهاية بمنصب الرئيس.
ولايتا آيوا ونيو هامبشير تتحكمان في مصير الرئيس الأميركي لأنهما أول ولايتين تبدآن الانتخابات الأميركية، والفائز يحصل على تغطية إعلامية أكبر. لكن نسبة البيض في هاتين الولايتين تصل إلى 90%، مما يثير تساؤلات حول مدى تمثيلهما للشعب الأميركي بأكمله.
في العام 2008، تم إجراء تغييرات لتحسين التمثيل بإضافة ولايتين بهما تنوع أكبر، مثل نيفادا وكارولينا الجنوبية، للتصويت مبكراً، وتم تنظيم العديد من الولايات الجنوبية للتصويت في “الثلاثاء الكبير”، وهو يوم يصوت فيه أكبر عدد من المندوبين في وقت واحد، مما يعطي وزناً أكبر لصوتهم ويكون اختباراً حقيقياً لشعبية المرشحين في جميع أنحاء البلاد. الفائز في “الثلاثاء الكبير” يكون في موقف قوي للفوز بترشيح حزبه. بعد تحديد مرشح كل حزب، تبدأ الحملة الانتخابية لكل منهما.
المجمع الانتخابي وظاهرة المندوبين الخائنين
في الولايات المتحدة، يتوجه الناخبون إلى صناديق الاقتراع في أول ثلاثاء من شهر تشرين الثاني/نوفمبر كل 4 سنوات للتصويت لمرشحهم المفضل، لكن ليس بشكل مباشر، بل يصوتون لمندوبين في المجمع الانتخابي متعهدين بدعم مرشح معين، وعددهم 538 مندوباً، يُحدد عددهم في كل ولاية بناء على عدد أعضاء الكونغرس فيها، والذي يتغير بحسب الكثافة السكانية لكل ولاية كل 10 سنوات.
على سبيل المثال، إذا فاز الرئيس الحالي، جو بايدن، مرشح الحزب الديمقراطي، بأغلبية الأصوات في ولاية كاليفورنيا، فإن جميع مندوبي كاليفورنيا الـ55 ملزمون بإعطاء أصواتهم له في المجمع الانتخابي. ولا تُوزع الأصوات بينه وبين منافسه حتى لو كان الفوز بأغلبية بسيطة، لأن القاعدة المتبعة في الانتخابات الرئاسية الأميركية هي “الفائز يأخذ كل شيء” (Winner-take-all)، وهذا متبع في جميع الولايات ما عدا نبراسكا ومين، حيث تُوزع أصوات المندوبين بحسب نسبة الأصوات التي يحصل عليها كل مرشح.
في بعض الحالات النادرة، قد يختار مندوبون التصويت بشكل مختلف عما يُفترض بهم، وهم ما يُعرفون بـ “المندوبين الخائنين” (Faithless electors). في انتخابات 2016، صوّت 3 من المندوبين الديمقراطيين في ولاية واشنطن لشخص آخر غير هيلاري كلينتون، على الرغم من أنهم كانوا متعهدين بالتصويت لها.
أكثر من 30 ولاية أصدرت قوانين تلزم المندوبين بالتصويت بحسب التصويت الشعبي، لكن العقوبات المالية لا تزيد عن 1000 دولار، وفي حالات أقل قد يُعزل المندوب من منصبه. ومع ذلك، لا توجد عقوبات قانونية كبيرة تُلزم المندوبين بالتصويت حسب الإرادة الشعبية، وقليل من الولايات لديها قوانين يمكن أن تُبطل صوت المندوب الخائن وتستبدله.
دور الولايات المتأرجحة في تحديد نتائج الانتخابات
الولايات المتأرجحة (Swing states) هي التي تُحدد نتائج الانتخابات، حيث يتغير ولاؤها التاريخي بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري. في انتخابات العام 2024، تُشير التقارير إلى أن 7 ولايات متأرجحة قد تحسم الانتخابات، وهي: أريزونا (11 صوتاً)، جورجيا (16 صوتاً)، ميشيغان (16 صوتاً)، نيفادا (6 أصوات)، بنسلفانيا (20 صوتاً)، ويسكونسن (10 أصوات)، نورث كارولاينا (16 صوتاً).
هذه الولايات، التي تُمثل 79 صوتاً من أصل 538 في المجمع الانتخابي، هي التي ستحسم الانتخابات، وبالتالي سيركز المرشحون جهود حملاتهم الانتخابية فيها. وفقاً لتقرير نُشر على موقع “أكسيوس”، فإن 6% فقط من الناخبين، مقارنة بالكثافة السكانية، هم الذين سيحددون نتيجة الانتخابات بين بايدن وترامب، وهم الذين ستُركز عليهم المليارات المخصصة للحملات الانتخابية. هذه النسبة تُشبه تقريباً النسبة التي كانت موجودة في القرن الـ18.
الأميركيون يرفضون المجمع الانتخابي
على مدى عقود، أظهرت استطلاعات الرأي أن أغلبية الأميركيين يفضلون التصويت الشعبي على المجمع الانتخابي. وعلى الرغم من استخدام المجمع الانتخابي لأكثر من 200 سنة، فقد تم تقديم أكثر من 700 طلب للكونغرس لإلغائه أو تعديله، وجميعها رُفضت لأن التغيير يتطلب موافقة ثلثي أعضاء مجلسي النواب والشيوخ و38 ولاية. الولايات الصغيرة غالباً ما ترفض هذه التغييرات لأنها ستقلل من تأثيرها على النتائج الرئاسية.
ومن أحد الحلول المقترحة للتغلب على نظام المجمع الانتخابي هو أن توقع الولايات ميثاقاً يقضي بأن أصوات مندوبيها تذهب للفائز في التصويت الشعبي على مستوى الولايات المتحدة، وليس فقط على مستوى ولاية واحدة. هذا الاقتراح يستغل ثغرة في الدستور لا تتطلب تعديلاً. 10 ولايات، بما في ذلك كاليفورنيا ونيويورك، وافقت بالفعل على هذا الميثاق، وتسيطر هذه الولايات على 165 صوتاً في المجمع الانتخابي.
ومع ذلك، فإن الولايات التي وافقت على هذا الاقتراح هي ولايات تميل إلى الحزب الديمقراطي، ولا توجد بينها ولاية جمهورية واحدة أو متأرجحة. على الرغم من أن الأميركيين يفخرون بكونهم واحدة من أقدم الديمقراطيات في العالم، إلا أن النظام الانتخابي الأميركي معقد وقد يجعل العديد من الأميركيين يشعرون أن أصواتهم لا تؤثر في النتيجة، خاصةً إذا لم يعيشوا في ولايات ذات عدد كبير من الأصوات. هذا يؤدي إلى انخفاض نسبة المشاركة في الانتخابات مقارنة بالديمقراطيات الأخرى.
النظام الانتخابي الأميركي قد يُعتبر غريباً وظالماً من قِبل البعض، بينما يراه آخرون معبراً عن الإرادة الشعبية ومناسباً لطبيعة الولايات المتحدة. ساندي مايسل، الخبير في السياسة الأميركية، يقول إن نظام الحزبين يجعل أمة بها أكثر من 340 مليون مواطن لا تُفرز سوى مرشحين 2 قد لا يكونان الخيار الأفضل، مثل المنافسة بين آل جور وجورج بوش، أو حتى بين جو بايدن ودونالد ترامب. وعلى الرغم من جاذبية نظام الانتخابات الأميركية، فإنه أبعد ما يكون عن الكمال.
سيرياهوم نيوز ٣_الميادين