رأي فؤاد خليل
في كتاب بعنوان «البروتستانتية وروح الرأسمالية»، يرى مؤلفه عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر أن الثقافة الدينية البروتستانتية حدّدت بشكل كبير نشوء الرأسمالية في أوروبا الغربية من خلال ما طرحته من أخلاقيات للعمل، نحو: القيمة الإنسانية العليا للعمل – أهميته – الواجب تجاهه – إتقانه – إجادته – المسؤولية إزاءه – المثابرة عليه – التزهّد النشط – الادخار… الخ. وقد أدّى ذلك إلى بناء عقلية غربية حداثية بحيث استولدت نظاماً مجتمعياً جديداً عرف بالنظام الرأسمالي. وهو ما جعل الحضارة الغربية تختص، في ضوء عقلانيتها هذه، في بناء رأسماليتها الموصوفة.على هذا دخل ماكس فيبر باب تحليله الثقافي الذي يتعارض، كما يرى أغلب الدارسين، مع تحليل ماركس المجتمعي والاقتصادي لنشأة الرأسمالية في الغرب الأوروبي (التحليل الماركسي يرى أن المجتمعي هو مبدأ التحليل والتفسير لأيّ ظاهرة تاريخية وأن الثقافي يأخذ نصابه في التحليل لكونه يشكل مستوى من مستويات المجتمعي بالذات).
لكن التحليل الثقافي الفيبري الذي يحيل إلى تمييز أوروبا بانبنائها الرأسمالي الحداثي عن سواها من الحضارات الأخرى، لم يعد، على ما أظهرته الدراسات السوسيولوجية راهناً، الباب الأوروبي الوحيد، بل هناك باب آخر، وربما أكثر، في التحليل الثقافي الذي أظهر مواكبة الدور الثقافي في التحديث الرأسمالي في مجال غير أوروبي، وذلك من خلال القيم الروحية والأخلاقية للعمل التي جعلت هذا المجال يتميّز بعقلية حداثية خاصة به.
وفي كتاب توماس بريسون بعنوان «انزياح المركزية الغربية»، يجري عرض محاولات فكرية متعددة من باحثين آسيويين، وبخاصة من سنغافورة والصين، تظهّر ما أمكن للثقافة الكونفوشيوسية من مواكبة حداثة رأسمالية آسيوية. فكان أن انطلقت تلك المحاولات من فرضية أن الكونفوشيوسية شكّلت أحد محدّدات الحداثة الآسيوية في النصف الثاني من القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين.
وعليه، استندت المحاولات إلى حقيقة أن المجتمعات الآسيوية تحمل نواة ثقافية تفسّر مواكبتها الحداثة الرأسمالية. وقد وجد الباحثون أن هذه النواة تتمثّل في الروح الزاهدة النشطة التي تقوم على الاجتهاد والاعتدال والصدق والحس العميق بالمسؤولية تجاه العمل والخدمة العامة.
والروح هذه طبعت، على ما ترى المحاولات لدى الباحثين، عملية نهوض تحديثي آسيوي معاصر في أكثر من دولة آسيوية من مثل سنغافورة وتايوان والصين التي سعت إلى تطعيم عقيدتها الرسمية بشذرات من الأخلاق الكونفوشيوسية. ولعل هذا ما جعل التحديث الآسيوي يحمل خصائص عقلية وثقافية وسياسية تتفارق على نحو رئيسيّ مع تلك التي تقود إلى نموذج التحديث الغربي.
يقدّم الانزياح الآسيوي للمجال العربي مثالاً تحفيزيّاً له لكي يجدّد قيمه الروحية والثقافية وأخلاقيات العمل لديه
بتعبير آخر، إنّ الثقافة الكونفوشيوسية بمستطاعها أن تقدّم نقيضاً للنظم الغربية وأن توفّر قيمة معرفية وأخلاقية مضافة. فالنهج المجتمعي لهذه الثقافة يعبّر عن موقف مناقض للروح التحرّرية والنزعة الفردية المنحطّة اللتين تقوّضان الوازع الأخلاقي للغرب ومجتمعاته، كما أنه يعبّر عن نظام الفضائل الأخلاقية الذي يتركز عقلانياً حول المصلحة العامة، في حين يركز الغرب على نظام الحقوق ذي المرجعية الفردية التي تعني إمكانية أن يقوم عدد قليل من الناس بالاستئثار بثروات تمنع بغير شكل عن الأكثرية. لذلك، تطرح الكونفوشيوسية نظاماً يقوم على دوائر متداخلة: الذات – العائلة – الجماعة – الأمّة – العالم – الكون. وهو نظام يستدعي الديموقراطية لتحقيق الفضائل الكونفوشيوسية من منطلق الحرص على أن تكون آسيا سيدة مصيرها وعلى أن تعيد ترتيب منظومة النظام العالمي، ذلك أن التجذّر في البيئة الآسيوية على قاعدة وحدة السماء والإنسانية يحيل إلى المساهمة في بناء أخلاق عالمية ينضوي تحت لوائها المجتمع البشري كله.
يحيل ما سبق، على اقتضابه، إلى أنّ التحديث الرأسمالي الآسيوي يقدّم جملة حقائق فكرية وسياسية، من أبرزها:
– إنّ انزياح التحديث الآسيوي عن نموذج التحديث الغربي يثبت، إذا ما اعتمدنا المنظور الفيبري في فهم التحديث، أنّ البروتستانتية ليست وحدها الروح التي تتمظهر في عقلنة خاصة وتواكب التحديث الرأسمالي، بل هناك في كل مجال غير غربي روح أو قيم ثقافية وأخلاقية بإمكانها أن تواكب التحديث الرأسمالي إذا ما أجرى هذا المجال تجديد روحه وقيمه في بناء عقلاني.
– يؤكد الانزياح الآسيوي أن نموذج التحديث الغربي ليس بالضرورة أن يمثّل النموذج الأوحد في العالم، أي أنه ليس النموذج الذي يصلح لكل زمان ومكان، بل إنّ هذا الانزياح برهن على وجود أكثر من نموذج تحديثي رأس مالي وها هو يترافق راهناً مع انزياحات أخرى تتجسّد في نماذج تحديثية غير رأسمالية في هذا العالم.
– من هذا المنطلق، يقدّم الانزياح الآسيوي للمجال العربي مثالاً تحفيزياً له لكي يجدّد قيمه الروحية والثقافية وأخلاقيات العمل لديه نحو: الإيمان – الرحمة – الإحسان – التعاون – التضامن – التناصر – حظوة الحس العام – مكانة الجماعة أو العائلة – احترام الكبير – إكرام الضيف – إغاثة الملهوف – الاحتفاء بالغريب – تقدير العمل – المسؤولية حياله – الواجب تجاهه – أهميته الإنسانية. وذلك بغية أن يواكب مجالنا تحديثاً عربياً له أن يتأصّل بالتجديد القيمي والروحي والأخلاقي، وبخاصة بثلاث سمات منه: الأولى وهي مغادرة المجال أمسه الأزلي. والثانية تجاوز هيمنة أمواته على أحيائه. والثالثة القطع مع تغريبه المنسوج على مقاس الثوب الغربي.
– من هنا، يقود الانزياح الآسيوي إلى التمييز النظري والواقعي بين التغريب والتحديث. فالأوّل يتجلّى في نقل تجربة مجتمع غربي إلى مجتمع غير غربي، ومع هذا النقل يقع الناقل، مهما يكن موقعه، في سوء فهم مزدوج. فهو، من جهة، لم يدرك حقائق التجربة وأبعادها في المجتمع المنقول، وهو لم يستوعب حقائق التجربة وأبعادها في المجتمع المنقول إليه. فتكون النتيجة، بالتالي، تفلّت المعرفة لدى الناقل من التجربتين على حد سواء. والثاني يتجلّى في قابليته للاسترشاد بتجربة حداثية ما. فيتاح له توطين ما استرشد به في المجتمع المراد تحديثه. والتوطين لا يعني الأخذ الانتقائي من عناصر تلك التجربة، بل يعني إعادة إنتاج المسترشد به من داخل الشروط الثقافية والمجتمعية والسياسية للمجتمع الذي يتطلّع إلى التحديث، أي بما يلائم شروطه هذه وفي مقدّمها نواته القيمية والروحية وأخلاقيات عمله.
– وبذلك يتاح لنا أن نستخلص أن التغريب حين ينقل تجربة إلى أخرى مغايرة، يكون نقله قد تفارق عن الأخيرة جاعلاً تحديثها هجيناً في مظاهره كافة. فتصاب ديموقراطيتها بالتشوّه في انتظامَي الفرد والجماعة.
كما يمكننا أن نستنتج بأنّ التحديث عندما يوطن ما يسترشد به من تجربة في تجربة أخرى مختلفة يكون قد تأصل بشروطها المخصوصة، فاتحاً أفقها على التكيّف مع ديموقراطية تتساوق مع تلك الشروط وتلائم ديناميتها على غير صعيد.
هكذا ميّزت آسيا، على ما نرى، بين التغريب والتحديث، فأعرضت عن التغريب لئلّا تفقد هويّتها أو تأسرها في محاكاة بائسة. وأخذت بالتحديث لتجعل من هويّتها مركبة ومنفتحة على العالم من خلال الخلق والإبداع والإنتاج في كل المجالات.
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية