د. قحطان السيوفي
ليس سراً أن هناك محاولة جدية لمزاحمة الدولار في الصيرفة والتجارة العالمية، ولا يخفى أن بعض الدول ذات قوة اقتصادية مثل الصين وروسيا والهند والبرازيل تسعى لاستخدام عملاتها المحلية لتسهيل التبادلات التجارية.
شهد العالم في السنوات الماضية تغيرات حاسمة، انعكست على طبيعة التفاعلات الاقتصادية والسياسية العالمية.
وشكلت الأزمات الاقتصادية العالمية المتتالية عاملاً رئيساً في إعادة الجدل حول هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي باعتباره العملة الرئيسية في التبادل التجاري الدولي أو كعملة احتياطية نقدية.
وكان الدولار الأميركي، ولا يزال، أداة رئيسية للولايات المتحدة الأميركية في فرض هيمنتها على الاقتصاد العالمي.
وثمة سؤال يتردد بين الحين والآخر، ويتعلق بمستقبل الدولار الأميركي كعملة عالمية مهيمنة، وما إذا كانت الولايات المتحدة ستظل المهيمن والمؤثر الأكبر على الاقتصاد العالمي؟ أم إن توازن القوى الاقتصادية سيتغير لمصلحة قوى منافسة للولايات المتحدة مثل الصين وروسيا، وهذا ما يشكل نوعاً من التهديد الإستراتيجي للدولار الأميركي، ولهيمنته على الاقتصاد العالمي، علما أن الاقتصاد الأميركي لا يزال يُشكل أقل من ثلث الاقتصاد العالمي، كما أن الولايات المتحدة ما زالت موطناً مهماً للنفط، بسبب إنتاجها واستهلاكها الضخم منه.
«مزاحمة الدولار»، يطلق عليها بالإنجليزية the de-dollarization، والحديث عن مصطلح «مزاحمة الدولار» يأتي أكثر ما يأتي من مجموعة دول بريكس وهي البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا التي ستلتئم في تشرين أول 2024، وقد تطلق عملة خاصة بها، في مسعى قد يكون الأول من نوعه لمنافسة الدولار.
واقعياً لم تخطط دول بريكس لإلغاء أو إزاحة الدولار، بل تسعى لمنافسة الورقة الخضراء على مستوى الاقتصاد العالمي، والمراقبون يرون أن الأسباب التي شجعت دول البريكس على مواجهة الدولار الأميركي بشجاعة دفعتهم إلى وضع خطط عملية بمحاولة إصدار عملة خاصة بها.
وقرار دول بريكس لمنافسة الدولار بشكل جدي ربما لم يتم إلا بعد اليقين أن دولاً ذات ثقل اقتصادي، وخاصة المنتجة والمصدرة للنفط، ستنضم إلى المجموعة، وما تخشاه الولايات المتحدة حقا هو موقف الدول المنتجة والمصدرة للنفط وعلى رأسها السعودية ومدى قبولها لعملة البريكس إذا صدرت، ومن ثم تسعير النفط بها، وبالتالي فإن مزاحمة الدولار ستقع في اللحظة التي توافق فيها الدول النفطية تسعير منتجاتها النفطية بعملة بريكس المحتمل صدورها.
هناك دول لبت دعوة البريكس للانضمام إلى صفوفها هذا العام، ما يمنح المنظمة زخماً قوياً للمضي في طريق منافسة الدولار رغم وعورته وسيزداد سعير الحرب الاقتصادية مع تصميم دول البريكس على تحدي هيمنة الدولار.
في الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة إلى تعزيز قيمة الدولار، فقد شكك كل من الجمهوريين والديمقراطيين في فوائد النظام الاقتصادي المنفتح والمتكامل، كما يُشكك الحلفاء والمنافسون في متانة القيادة الأميركية الحالية في مدى صواب فكرة الاعتماد بشكل كبير على قوة الدولار المهيمنة.
ومن الأمور التي هزّت ثقة الحلفاء في القيادة الأميركية أيضاً، إفراط الولايات المتحدة في فرض العقوبات، وتصميمها لحماية مصالحها التجارية وليس لتعزيز القواعد والمعايير العالمية ومكافحة الجرائم والإرهاب.
كما شجب منافسون مثل روسيا والصين العقوبات المالية بوصفها «قوة أميركية غاشمة»، واتخذت كل واحدة إجراءات جديدة تجنبهما الدولار في تعاملاتهما.
يلعب الدولار دوراً بارزاً في منح أميركا نفوذاً اقتصادياً وسياسياً كبيراً ويرافق ذلك تحديات ومخاطر متنامية، ومع تزايد الحديث عن بدائل للدولار، وخاصة من أعضاء مجموعة البريكس، يتجدد النقاش حول مستقبل هيمنة الدولار، واستمرارها في ظل التحديات الاقتصادية والسياسية المتزايدة.
وبينما يمثل الاقتصاد الأميركي نسبة تقريبية تصل إلى 15.5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، فإن نحو 58 بالمئة من الاحتياطيات العالمية بالدولار الأميركي.
تسلط جريدة «فايننشال تايمز» البريطانية، الضوء على مخاوف في واشنطن من الإفراط في استخدام العقوبات؛ ما يمكن أن يؤثر سلباً على الثقة في الدولار، وبالتالي في قوة الولايات المتحدة كقوة عالمية، وليس بمحض الصدفة أن حكومة الرئيس لويس إيناسيو لولا دا سيلفا في البرازيل تبحث عن بديل للدولار من خلال دول البريكس، وتضيف الصحيفة البريطانية: إن السياسة المتبعة للدولار القوي تأخذ أهمية كبيرة في قلب السياسة الاقتصادية في واشنطن.
قررت إدارة الرئيس بايدن عدم التركيز على قضية ارتفاع الدولار، إذ اعتبرتها مؤشراً على تحسن الاقتصاد الأميركي، وفي المقابل، يظهر منافسه للرئاسة دونالد ترامب رفضاً لهذا النهج، حيث ينظر إلى الدولار القوي على أنه يضعف الاقتصاد الأميركي لمصلحة الصين، وفي هذا السياق يؤكد الخبير الاقتصادي، أنور القاسم، على ضعف استمرارية الهيمنة الدولارية حالياً لمصلحة عملات عالمية أخرى، ويرى القاسم أن إلغاء الدولرة أصبح خياراً إستراتيجياً للعديد من الدول مثل موسكو وبكين.
العديد من المحللين يرون أن العام 2024 سيشهد الاتجاه الهبوطي للدولار، ويتوقع العديد من إستراتيجيي سوق العملات أن ينخفض الدولار أخيراً إلى ما دون مستوى 1.1 مقابل اليورو.
ملخص ما شهده العالم خلال السنوات الأخيرة أن الحضور الأميركي ينكفئ سياسياً وعسكرياً، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط وآسيا، وهو ما أغرى القوى الأخرى مثل روسيا والصين إلى التوسع على حساب هذا الانكفاء الأميركي، بالمقابل فإن نظام «البترودولار» الذي أرست قواعده الولايات المتحدة في سبعينيات القرن الماضي، كان السبب الرئيس في هيمنة العملة الأميركية، وما يحدث في العالم منذ سنوات هو أن نظام «البترودولار» يهتز نتيجة للتطورات السياسية والعسكرية المتلاحقة، كما يشهد الاقتصاد الأميركي أزمات متلاحقة تؤدي إلى تراجع الثقة به، وهو ما رفع الطلب على الذهب وغيره وخاصة في أعقاب وباء كورونا وحرب أوكرانيا وسياسة التيسير الكمي التي انتهجتها إدارة دونالد ترامب.
في أواخر العام 2022 قال الرئيس الصيني شي جين بينغ لقادة دول الخليج العربية خلال القمة التي انعقدت في العاصمة السعودية الرياض: إن «الصين ستعمل على شراء النفط والغاز باليوان»، وقد كان هذا التصريح مؤشراً مهماً على رغبة في التحرر من هيمنة الدولار.
أما التحرك العملي الأهم كان في آذار 2023 عندما بدأت الهند بشراء النفط من روسيا بالروبل الروسي، وهو ما يعني التمرد على نظام «البترودولار».
ونشير إلى أن الهند تشكل اليوم ثالث أكبر مستورد للنفط في العالم بعد الولايات المتحدة والصين، والخلاصة أن العالم يشهد تحولات سياسية واقتصادية عميقة، وهذا يمكن أن يؤدي إلى انكفاء الدولار الأميركي وتراجع هيمنته المنفردة على العالم، والدولار سوف لن يظل الملاذ الآمن كما كان خلال العقود الماضية، وتسعى بعض الدول لإسقاط الدولار عن عرش العملات العالم، وهذا يشير إلى مستقبل الدولار الأميركي وتراجع هيمنته على ضوء التحولات الاقتصادية والجيوسياسية العالمية.
وزير وسفير سوري سابق
سيرياهوم نيوز1-الوطن