عبر التاريخ ثمة مبدعين حقيقيين استجابوا لنداء المرحلة، ولمشاعر غَزَلَتها ظروف الاحتلال، فواكبوا الأحداث وكتبوا عنها ووثقوها فكانت كلماتهم وإبداعاتهم أقوى من الرصاصة التي يطلقها العدو.
اليوم أمام ما نراه من قتل وتدمير وإبادات يمارسهما العدو الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية.. يلوح في الذاكرة العديد من المبدعين الذين لم يصمتوا في وجه الظلم يوماً، لا بل واجهوا بكل ما يستطيعون في سبيل كلمة الحق.
فمثلا غسان كنفاني الأديب الشهير بمواجهته للعدو الصهيوني كانت أعماله الأدبية من روايات وقصص قصيرة متجذرة في عمق الثقافة العربية والفلسطينية، وقد دفع ثمن مواقفه حياته، فقد اغتيل كنفاني في الثامن من يوليو عام 1972 في بيروت بعد انفجار عبوة ناسفة وضعت في سيارته من قبل العدو الإسرائيلي الغاشم.
أيضاً الأديب البرتغالي «ساراماغو» الذي لم يكتفِ برفض الاحتلال الإسرائيلي وإدانته، بل قام أيضاً في عام ٢٠٠٢، بزيارة الضفة الغربية وقطاع غزة، ليقول بعدها في أحد تصريحاته: «يجب أن تُقرع جميع الأجراس في العالم لتقول، إن ما يحدث في فلسطين جريمة لا تُغتفر..».. والقائمة تطول فهناك من اشتهروا بأدب المقاومة.
فقد اتسم الشعر في هذه المرحلة بالبعد الإنساني والاجتماعي ومعرفة الآخر، فكان الشاعر عبد الكريم الكرمي، ومحمود دسوقي، ومحمود درويش، وسميح القاسم، وتوفيق زياد… هؤلاء شعلة حقيقية في وجه الطغيان والأهم أن أبداعاتهم ما زالت تدّرس حتى اللحظة.. كيف لا وهي ساكنة في وجدان كل شريف على هذه البسيطة.
والسؤال هنا : أمام هذا الصمت القذر للمجتمع الدولي عن كل ما يحدث في غزة ؟ أين أقلام المبدعين اليوم التي يجب أن نغفو على جمالها وجاذبيتها لروحنا ؟
صحيح أن غزة أقوى بكثير مما تتخيلون، وهي قوية بشبابها الذين لايعرفون السكون، عنيدة صامدة صابرة.. لكنها اليوم في حالة استثنائية ويجب على الجميع أن يكتب ويقول كلمة حق في وجه الطغيان، فكل ما قيل سابقاً في غزة لم يكن صدفة بل كان نابعاً من روح الانتماء والهوية لهذه الأرض المقدسة.
ها نحن بعد سنين طويلة نردد ما قاله نزار قباني مخاطباً أبناء غزة، فمنذ أيام الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي اندلعت سنة 1987 كتب نزار «يا تلاميذ غزّة علّمونا»، ولا نزال حتى يومنا هذا نتعلم من أبناء غزة معاني المقاومة المكللة بالعزة والكرامة.. وما زلنا نردد ما قاله أحمد شوقي أمير الشعراء في أشعاره عن فلسطين فقال:
جاشتِ الأشواقُ وانزاحَ الكَرَى * ولظى الحُزنِ بلَيلِيْ مؤنِسِيْ
آهِ! لو أمكنَ يا روحَ السُّرَى * ما برحْتُ لحظةً في مجلِسي
كنتُ أسريتُ إلى تلكَ الرُّبى * في بِقاع طُهِّرَتْ مِن دنَس
فلَقدْ طال على القلب النَّوَى * وهوَى الأشواقِ بيتُ المَقدِس
ولعلّ لهفة الشاعر الفلسطيني عبد الكريم الكرمي «أبو سلمى» خير شاهد على جمال الشعر ولهفة الحنين للوطن، فهو لا يتخيّل الحياة بعيداً عن فلسطين؛ فكانت كلماته تنساب إلى القلب وتصويراته الرقيقة الحزينة تسكن الوجدان، فقال :
فلســطينُ الحبيبةُ… كيفَ أحــيا
بعيداً عنْ ســهولكِ والهضابِ؟!
تُناديني الســُّـــفوحُ مخضبات
وفي الآفــاقِ آثارُ الخضــابِ
تناديني الشواطئ باكياتٍ
وفي سـمعِ الزَّمانِ صدى انتحابِ
تُناديني الجداولُ شـــــارداتٍ
تســــير غريبة دونَ اغترابِ
تنادينــي مدائــِنُكِ اليتــامى
تُنـــــاديني قراكِ معَ القبابِ
أمام هذا الجمال الذي نقرأه يحق لنا أن نسأل عن الشعر المؤثر والحقيقي، وعن المثقف الذي يجب أن يكون حاضراً اليوم أكثر من أي وقت مضى، ولاسيما أن غزة أسقطت كل أكاذيب الغرب وإنسانيته المزيفة، لكن لابأس علينا فهناك في غزة، تاريخ يكتبه أطفال لا يعرفون اللعب ولم يتذوقوا معنى الطفولة، بل سرقت احلامهم، وهناك نساء يقاتلن كالرجال رغم غصة الموت ..نعم، هناك أساطير تتجلى، يتوقف الكلام، ويحضر الألم، تموت البسمة، لكن المقاومة لن تموت.. لن تموت.. ولن تموت.
سيرياهوم نيوز 2_الثورة