نبيه البرجي
قد يكون علينا أن نتوقف عند قول عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو “المجتمعات التي لا تتوقف عن اجترارها للترسبات التاريخية، لا تلبث أن تتحول الى ترسبات بشرية بتوترات سوسولوجية، لا بد أن تقود الى الخراب”. لنسأل أي لبناني يستطيع احصاء الأزمات التي يرزح تحتها، أو ترزح تحتها بلاده؟
لعل الأشد هولاً بين مسلسل الأزمات، ليست أزمة النظام ولا أزمة الدولة، أزمة اللبناني في لبنان، وأزمة لبنان في اللبناني. منذ البداية قال الدستور وقال “الميثاق الوطني” باللبناني واللبناني الآخر، وعلى أساس النوع. ثمة نوعان أو أكثر من اللبنانيين، حتى اذا اندلعت الحرب الأهلية كنتيجة جدلية لـ”الحالة”، خرج جهابذة التسويات العرجاء بوثيقة الطائف، التي كان يفترض أن تكون اطاراً لمرحلة انتقالية باتجاه الجمهورية الثالثة، فاذا بهم يجعلون منها تكريساً لمصائبنا السياسية والطائفية. شيء ما يشبه… حائط المبكى.
كان يفترض بالحرب كمطحنة للجثث، أن تحدث هزة في الوعي. العكس هو الذي حصل ليبقى اللبنانيون على فوهة البركان، دون أن نتمثل بالاسبان الذي خرجوا من تلك الغرنيكا الدموية بـ”ميثاق النسيان” (Pacto del olvido)، بعدما كان شاعرهم الرائع غارسيا لوركا، الذي قتله الجنرال فرنكو بقذيفة مدفعية، قد قال: “لقد جعلوا الورود تنتقل من قلوب العشاق الى قبور العشاق”. قال… ورود الكراهية.
“الاسرائيليون” كنموذج للتفاعل في ما بينهم، أمامنا. المهاجر من ناطحات السحاب في مانهاتن الأميركية، والمهاجر من أكواخ القش في غوندر الأثيوبية. بالرغم من كونهم قد أتوا، وكما رددنا مراراً، من قاع الايديولوجيات ومن قاع الأزمنة، فقد حملوا معهم ديناميكية سوسيولوجية ساهمت في الدخول الى العالم التكنولوجي.
بالطبع، نحن جماعة العتابا والميجانا، ونحن جماعة “الدولتشي فيتا” (الحياة اللذيذة)، بعيدون عن “لوثة العناكب” ـ بحسب بورديو ـ ما الذي جعلنا ننزلق الى ثقافة الخنادق كمدخل حتمي الى ثقافة القبور؟
كم هي المسافة التي تفصلنا عن الحرب الأهلية، وقد خبرنا ما تعنيه التبعية، أكانت للأشقاء أم للأصدقاء أم كانت للأعداء، مع امتلاكنا كل الامكانات لنكون لؤلؤة الشرق ومنارة الشرق، بعدما احتار الفرنسي لامارتين اذا كان لبنان “أريكة القمر” أم “أريكة الله”، ليفاجئنا الأميركي دوغلاس كنيدي بالقول “هناك لا تدري اذا كنت في الجنة أم كنت في جهنم”.
بالتأكيد أبتلينا بطبقة سياسية جرتنا، بالبشاعات الطائفية اياها، الى أروقة الجحيم. المشكلة أننا، وأمام صناديق الاقتراع، نصرّ على بقائنا في الجحيم.
حتى أننا على طرفي نقيض في النظرة الى أولئك البرابرة الذين يجثمون على الجانب الآخر من الخط الأزرق، والذين لامسوا في جنونهم الأزرار النووية. وها هم في السنة الانتخابية الرئاسية الأميركية، يبدون وكأنهم سادة الولايات المتحدة، ان لم نقل سادة الكرة الأرضية بعدما كشّروا عن أنيابهم، رفضاً للاعتراف بالفلسطينيين كمخلوقات بشرية تستحق أن يكون لها موطئ قدم في كوكبنا.
ولنلاحظ كيف يتعاملون بشوفينية مثيرة مع الدولة التي هي السبب في بقائهم، ودون أن يكترثوا على الاطلاق بالقرارات الدولية، في حين أن نجوم الهروب الى الأمام في بلادنا، مازالوا يدعون الى الاعتماد على”الشرعية الدولية”، لكأننا لم نكتشف، بالرغم من كل الويلات التي ألمّت بنا، أن الشرعية الوحيدة السائدة الآن هي… شرعية القوة.
كريم خان، مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية، قال كلمته. “الاسرائيليون” كلهم صوت واحد في دعوتهم الى تعليق الرجل، الذي لاذ بالصمت طويلاً على حبل المشنقة.
ازمتنا الكبرى هي “اسرائيل”. لولاها لما كانت هناك تلك التصدعات الكارثية ان بين اللبنانيين واللبنانيين، أو بين العرب والعرب. حتى “اللجنة الخماسية” التي تمثل الوصاية الأميركية علينا (ويقال في مواجهة الوصاية الايرانية) ضاقت ذرعاً بنا. اذ نتحدث عن “مجانين اسرائيل” الذين يعتبرون أنهم يعملون لحساب “اسرائيل”، أصحاب السعادة السفراء يتحدثون عن “مجانين لبنان” الذين لا يدرون لمن يعملون…
خيارنا الاستراتيجي أن نبقى حيث نحن، في قعر الزجاجة أم في عنق الزجاجة؟!
(سيرياهوم نيوز ١-الديار)