انتهت مؤخراً حلقات مسلسل “شارع شيكاغو” عبر فضائية عربية، وكان قد عرض لأول مرة في نهاية آب المنصرم على إحدى القنوات المشفرة، وإحدى المنصات. وبتأمل ما أنجزه الكاتب – المخرج محمد عبد العزيز؛ يبدو للوهلة الأولى جداً ممتع لأسباب كثيرة، وفي مقدمتها قصة الحب الأساسية بين ميرامار ومراد، وللصورة الجميلة والسينوغرافيا الممتعة للعين والنفس، ومن البيئة البكر مسرحاً للكثير من أحداث المسلسل، وهو الشارع الدمشقي الذي حمل المسلسل اسمه، ومن الأداء اللافت للنظر لمعظم فريق التمثيل ولشخصيات معظمها تقوم بأولى تجاربها أيضاً.
الحب لا يموت
ولكي تكون قصة مشوقة، حاول عبد العزيز توفير كل عناصر الإثارة لها، فكساها بنسيج بوليسي، فكانت بطلتها ميرامار/ سلاف فواخرجي، شقيقة (برهان/جسّده شاباً جوان خضر، ومتقدماً في العمر جمال قبش) الضابط في المكتب الثاني أيام الوحدة بين سورية ومصر في أول الستينيات، والعاشق المغرم بها (مراد/ جسّده شاباً مهيار خضور، ومتقدماً في العمر عباس النوري) صحفي.
وهي قصة تؤكد أن العاشقين يجب أن لا يستسلما لأي معوقات تحد من ارتباطهما، ولأجل ذلك دخل مراد أكثر من مرة إلى السجن، وكلها بتهم مزيّفة، ليخسر فيما بعد حبيبته التي قتلت بتكليف من شقيقه.
ولأن هذا الحب لا يموت ظلت موجودة بابنتها التي لم يعلم بها مراد إلاّ في آخر المسلسل وفي آخر لحظات حياته.
قُطَب غير متينة
لكن المتأمل بالخيوط الدرامية الأخرى سواء التي تفرعت من قصة ميرامار ومراد، أو سارت بالتوازي معها، يلاحظ ثمة قطب في نسيجها الدرامي غير متينة، رغم استعانة محمد عبد العزيز بورشة كتابة تألفت من (علي ياغي، رزان السيد، يزن الداهوك)، تلك القطب جعلت نسيج العمل غير مقنع في الكثير من مواضعه. نعرض لها ونترك الحكم للمشاهدين.
فـ “نعمان كحل الليل” الذي (جسّده متقدماُ بالعمر الفنان دريد لحام، وجسّده شاباً حسام سلامة)، شخصية سيّرها عبد العزيز وفق رغبته لا وفق منطقها، إذ مضى عام 2009 لـ (يوسف/وائل رمضان) يخبره عن جريمة ارتكبها عام1960 وهي قتله المطربة ميرامار، وليدلهم على مكان دفنه لجثتها، وأن في قبرها أيضاً (تنكتين من الذهب). وقبل قتلها كان نعمان يحسد مراد على علاقته بها ويتمنى لو استطاع أن يزيحه من دربها لتكون له، لأنه اغرم بها كما مراد من أول نظرة، لكن عندما طلب منه شقيقها، قتلها مقابل بعض المال دون أي تردد أو أي شعور.!. والسؤال الذي لم يقدم المسلسل إجابة عنه، لماذا استمرت هذه الشخصية بالتكتم طوال تلك السنوات ثم استفاق ضميرها، وكيف تركت كل تلك الثروة في القبر ومارست غسيل وكوي الملابس بعد أن أغلق الملهى أبوابه، بدلاً من الاستفادة منها؟ مع أن أحداث المسلسل تؤكد أن الجرتين لا تزالان داخل النفق، ولم يُخْرِج الشيخ عبد الجبّار/فايز قزق، سوى الجرة التي وجدها أولاً، هو وابن شقيقه المقص/ حسام الشاه، فعن أي (تنكتي ذهب) يتكلم كحل الليل؟!. وعلى خط الانتظار ذاته انتظر محقق الجنائية المتقاعد شامل كوكش الذي جسّده متقدماً بالعمر المخرج الراحل علاء الدين كوكش، كل ذلك الوقت ليرسل للضابط يوسف، ما في حوزته من وثائق تخص جريمة قتل ميرامار، لكن دون أن نعرف كيف علم هذا المتقاعد باهتمام يوسف بهذه القضية، طالما أن الصحافة لم تقاربها، فهل تنبأ بذلك هو الآخر؟.. إذاً فالمسلسل لم يقدّم أية إجابة مقنعة عن أي سؤال.!.
كيفما اتفق
تتوالد الأسئلة لدينا كمشاهدين، منذ الحلقة الأولى، أولها كيف استطاعت ميرامار أن تمشي بسرعة المبصرين ومراد يمشي خلفها؟ فبعضنا يعرف بعض الأشخاص الذين فقدوا بصرهم بالتدريج، لكنهم لا يمشون دون الاستعانة بالعكازة البيضاء..! ثم كيف ميّزت رائحته وعرفت المسافة التي قطعها وهو يطاردها؟ أسئلة انتظرنا من الحلقات التالية أن تجيبنا عنها لكن عبثاً. فالتنبه لروائح الناس لا بد له من تدريب، أو خلفية علمية ما، وليس اعتباطاً. وهذا الولع بالشعر الصوفي والرقص المولوي والعزف والغناء دون أي إشارة لخلفية ذلك، وكأن المخرج استقى ذلك من مصادر غير مصرح بها فاستجمع منها سمات رسم منها ملامح وقدرات هذه الشخصية التي لديها كل شيء خارق، حتى عندما أرادت أن تغني بمشرب ستيلا/ شكران مرتجى، غنت دون أي تدريب مع الفرقة، وهذا غير صحيح على الإطلاق، فلا بد من تدريب، فمحاولة أسطرة الشخصية دون مقدمات لم يقنعنا بقدراتها الخارقة، التي وصلت حد التنبؤ بمصير كحل الليل أنه سيموت وحيداً وهذا ما حدث!. لكن هل كان رسم عبد العزيز لشخصية مراد الذي كان صحفياً بمجلة ساخرة، أكثر دقة؟ لا نعتقد، ففي ظننا أن الساخرين هم أشخاص يميلون للسخرية لأنهم لا يؤمنون بالقوة العضلية، فكيف توافق كتابة مراد في “المضحك المبك” وكل تلك العضلات والميل لاستخدامها بعنف دائماً، ناهيك عن قدرته على مواجهة ثلاث رجال شرطة يحملون مسدسات دون أن يفكر أحدهم بإطلاق النار على قدمه أو في الهواء لإخافته، حتى ولو كانت التعليمات بالقبض عليه حياً وليس قتله ..!
الخبر قبل الحدث.!
ولو انتقلنا إلى قصتي الحب الإضافيتين المعاصرتين التي قاربهما عبد العزيز ليقدمهما لنا كعنوانين لتحدي المجتمع الذكوري والانتصار للحب، فهل كان مصيرهما مقنعاً؟. شاهدنا سارة (ريام كفارنة) ابنة الحوت/ أو برهان، تغرم بـ تيم (خالد شباط) ابن شقيق مراد، ورغم أن والدها يراقبها خطوة بخطوة، استطاعت الهروب للبنان مع عشيقها الذي أصبح خطيبها، ويصله الخبر للحوت بسفرهما قبل حدوثه..! فقد أخبرته مدبرة منزل شقيقته هدى/ نادين خوري، بأنهما خطبا وسافرا للبنان، ثم نشاهدهما يودعان هدى في حلقة تالية لينطلقا مسافرين، ورغم ذلك لم يتنبه المخرج لهذا الخطأ في المونتاج! ولم يكترث برصد شعور هدى بما قد تلاقيه من شقيقها لأنها وافقت على هذه الخطبة وهي الراضخة له طوال حياتها. أما الشاب جواد/همام رضا، الذي ارتبط بحبيبته سمر/ سماح سرية، بكتاب على يد شيخ، يهربان من مطاردة والد حبيبته (تيسير إدريس) للبنان أيضاً، ليترك جواد مصدر رزقه وهي دار السينما التي ورثها عن جدّه (أوجا أبو الذهب)، في حين أن المنطق يقول أن يسافرا لمدينة سورية أخرى بشكل مؤقت. فلمن ترك دار السينما مصدر رزقه دون أدنى تفكير أو إشارة لذلك، فكل هم “عبد العزيز” قفل هذه العلاقة أيضاً بالهروب، كسابقاتها ..!
سؤال رئيسي
ولعل العديد من المشاهدين تساءلوا، طالما كل شي موثّق بالتواريخ والأمكنة وبعض الشخصيات التاريخية والمؤسسات، إلى جانب ما هو متخيّل، من هو برهان أو الحوت الذي استمرت شخصيته لعام 2009 الزمن الحاضر للمستوى الثاني من الأحداث والذي لا يزال فوق السلطات؟ وهل يجوز توثيق ما نريد من مرحلة وإهمال ما لا يتوافق مع رغباتنا، أم أن ثمة تخبطاً في ما أراد مقاربته عبد العزيز فكرياً؟ وينهض السؤال بصخب في الحلقة الأخيرة حين يقول برهان لمراد الذي كان ينوي قتله ودفنه بمكان غير آهل بالسكان ” أنت بتعرف إنو نقطة دم مني بتحرق البلد كلو”، فهل الدراما التلفزيونية تحتمل الترميز المُبهم وما يصح على برهان يصح حول مسألة الذهب الموجود تحت شارع شيكاغو الذي لم يظل على قيد الحياة كل من حاول الحصول عليه، رغم أن الجنائية وجدت في جيب بنطال “القاق/ صاحب صندوق الفرجة” بعض القطع، ما يمنع رمزية عدم القدرة على حصوله. ولم تتضح رمزية تجلي ميرامار فيه ليوسف وابنة شقيق كحل الليل، ولا كيف دخل الأخيران ولم يستطع “القاق” الخروج منه؟ وتأخذ شخصية الحوت أهمية مضاعفة لأنها من قتلت ميرامار، وسماهر/ أمل عرفة، وهما من تمردتا على الأعراف والتقاليد وسطوة المجتمع الذكوري، في زمنين متباعدين، فليس عبثاً أن يأمر بقتل شقيقته ويطلق النار على سماهر ..!
مقاربة ضعيفة
من المحاور الدرامية الهامة في المسلسل، الصراع بين الشيخ عبد الجبار خطيب جامع “الطاووسية” وابن شقيقه وأتباعهم، وبين أصحاب محلات شارع شيكاغو، لكنه جاء صراعاً تجسد بالجامع في مقابل الحانة ..! فبدت مقاربة مسألة التطرف الديني ضعيفة، ولم تُجدِ محاولة المسلسل تحديها بالقُبل التي وجّه بها المخرج فريق التمثيل في المستويين الزمنيين فعاليةً، لتكون بوابة لتنوير العقول، بدليل أن حذفها لن يخل بدراما العمل .. لكن حتى لا نبخس هذا الجهد حقه، كنا نتمنى لو صعّد أو كرر أو قارب المشهد الجميل الذي واجه به أصحاب وروّاد محلات شارع شيكاغو المتطرفين حين هاجموهم في الحلقة الرابعة.. إذ دافعوا عن أنفسهم وعن حقهم بالحياة بأن غنوا جميعهم “كنّا ستة على النبعة إجا المحبوب صرنا سبعة ….”، وإن كان المشهد يذكر بمشهد غناء محمد منير “علّي صوتك بالغنا لسا الأغاني ممكنة” في فيلم “المصير” للراحل يوسف شاهين.
آفة الإبداع
على الرغم من أداء سلاف فواخرجي المتقن وفق ما رُسمت شخصيتها، إلاّ أنها لم تستطع السيطرة التامة عليها، فكانت تتصرف أحياناً كمبصرة سواء بالتنقل في المكان، كما في السينما أو في الكنيسة، وفي بيت مراد، أو خلال الغناء، فالكثير من حركاتها هي حركات مطربات معاصرات، كيف رأتها حتى تقلّدها؟ وهذا ما يقع على عاتق المخرج وليس على سلاف فقط.
رقصت “كهرمان” في الحلقة (11) على موسيقا أغنية ألف ليلة وليلة التي لحنها بليغ حمدي لأم كلثوم، لكن كيف والأغنية قدمتها أم كلثوم عام 1969 وأحداث المسلسل عام 1960؟! وبمناسبة كهرمان التي تم تصفيتها بالذبح، لأنها جاسوسة. فما ضرورة أن يظهر قتلها كحادث جنائي، وهي لا أهل لها ولن يسأل عنها أحد، ولم يهتم بقتلها أو غيابها أحد. هذا الضعف الدرامي بتصفيتها بُني عليه اتهام مراد بقتلها، فكان الاتهام أكثر ضعفاً من الجهة الدرامية، فهل يعقل أن تقتل في شارع شيكاغو ولم يره أحد، كيف ومتى؟ وكأن المخرج يرسم المشاهد والأحداث له وليس للمشاهدين، وينسى كثيراً أن آفة الإبداع عدم الإقناع.
أخطاء فنية
تقنية الاسترجاع التي بني عليها المسلسل للتوازي بين زمني أحداثه في الماضي وفي الحاضر، لم تكن موفقة دائماً بل كانت تظهر وفيها إرباك للأحداث وللمشاهدين. ففي الحلقة (12) لا نعرف من يسترجع حدثاً لم يحصل بعد، هل هو شخصية كحل الليل أم ميرامار، وكلاهما كان راحلاً، فمن الذي استعاده، وبه يختلط مشهد موته وحيداً بمشهد توقعها له بذلك؟ والأغرب أن ميرامار تستعيد شخصية كحل الليل في الحلقة (18) في عمره المتقدم، رغم أنها رحلت قبله بخمسين سنة..! كما ليس مفهوماً أن تستعيد ميرامار أو يتهيأ لها كيف احترقت محلات شارع شيكاغو قبل أوان حرقها، خلال الحلقة (22) وهي مختبئة في بيت رشدي بيك، فكيف لها ذلك..؟!
وتظل أكثر المشاهد التي تدل على أخطاء في المونتاج والكتابة مشاهد زيارة مراد بمرحلة متقدمة من عمره لقبر جورجيت/نظلي الرواس عام 2009، في مقبرة اليهود، رغم أن الشرطي الذي كان يزوّده بالأخبار وهو في السجن عام 1960 قال له أنها سافرت للأرجنتين هي وزميلهما حسني/ وسيم الرحبي، وليس من أية إشارة لرجوعهما إلى دمشق.!.
كل ما سلف من ملاحظات وغيرها، أضاع جهد الممثلين والفريق الفني، وأضاع الزمن الذي صرفناه دون حصولنا على المتعة التي لا تأتي إلاّ بتوازن شقيها الفكري والفني.
نضال بشارة
سيرياهوم نيوز 6 – تشرين