سعيد محمد
لندن | لم تكن أيّ إدارة أميركية لترغب، في واقع الأمر، في العفو عن جوليان أسانج، لِما سبّبه الرجل من إحراج للبلد الذي لا يزال يتسيّد «العالم الحرّ». ثلاث إدارات متعاقبة لم تَجد حلّاً لـ«المشكلة» التي يبدو أن جو بايدن ابتدع لها مخرجاً يجنّبه مأزقاً جديداً هو في غنى عنه: الإقرار بالذنب في مقابل الحرّية. على أنه لم يَعُد أمام أسانج، الذي مكث في سجن «بلمارش» البريطاني على مدى ست سنوات، وسبع سنوات قبلها في سفارة الإكوادور في لندن، خيار سوى شراء حرّيته بأي ثمن، بعدما تأكّد، والحال هذه، أن العفو المنتظَر لن يأتي من البيت الأبيض أيّاً كان رئيسه. وبموجب «الصفقة» التي يَظهر أن الحكومة الأسترالية تدخّلت لعقْدها مع الجانب الأميركي، يصبح جوليان أسانج، اعتباراً من اليوم الأربعاء، حرّاً، بعد 15 عاماً على واقعة «ويكيليكس».وكان مقطع مصوّر نُشر على «ويكيليكس»، قد أَظهر مؤسّس الموقع، أسانج، الأسير (سابقاً) لدى الحكومة البريطانية، وهو يغادر لندن، أمس، على متن طائرة صغيرة مستأجرة، انطلقت من مطار «ستانسيد» نحو جزر ماريانا الشمالية في المحيط الهادئ، متوجّهاً إلى بلاده (أستراليا) بعد «أوديسة قانونية» استمرّت لِما يقرب من 15 عاماً. وتعليقاً على الحدث، كتبت زوجة أسانج، ستيلا، عبر حسابها في موقع «إكس»: «جوليان حرّ». ووفقاً لمكتب رئيس الوزراء الأسترالي، أنتوني ألبانيز، فإن أسانج غادر المملكة المتحدة فعلاً، ولكنه امتنع عن التعليق على الإجراءات القانونية «لأنها مستمرّة». وبحسب الصحف الصادرة في لندن، فإن المحكمة الملكية العليا في بريطانيا أَطلقت، بضمان كفالة، سراح أسانج، استناداً إلى صفقة تم إبرامها مع السلطات الأميركية يتمّ بموجبها مثول مؤسّس «ويكيليكس» أمام قاضٍ أميركي، اليوم، ليقرّ أمامه بالذنب بتهمة واحدة تتعلّق بـ«انتهاك قانون الولايات المتحدة للتجسّس»، فيعاقَب عليها لمدّة 62 شهراً سجناً ستُحسب له مقابلها مدّة احتجازه في سجن «بلمارش» البريطاني، ويسمح له تالياً بالتوجّه إلى بلاده، علماً أن جزر ماريان الشمالية اختيرت كنقطة محاكمة لقربها من أستراليا.
ويبدو أن أسانج (52 عاماً)، الذي نشرت صورة فوتوغرافية له، أمس، وهو يوقّع أوراقاً أمام موظّفي المحكمة البريطانية، قد وافق على الإقرار بالذنب في تهمة جنائية تتعلّق بالتآمر للحصول على وثائق الدفاع القومي الأميركي السرّية، والكشف عنها، وذلك في إطار صفقة معقّدة يقول الخبراء إنها ممتازة لإنهاء المعاناة الشخصية للرجل وعائلته، لكنها تمثّل سابقة قانونية كونها تسمح للحكومات بخنق الصحافة الاستقصائية، وتتيح للإمبراطورية الأميركية مطاردة مَن يكشفون حقائق جرائمها حتى لو كانوا غير أميركيين، أو مارسوا عملهم الصحافي خارج الولايات المتحدة. وكان موقع «ويكيليكس»، قد نشر اعتباراً من نهاية عام 2010، مئات الآلاف من الوثائق العسكرية الأميركية السرّية في شأن حروب واشنطن الإجرامية في أفغانستان والعراق، إلى جانب مئات آلاف البرقيات الديبلوماسية لوزارة الخارجية الأميركية، والتي كَشفت عن طرائق عمل الإمبراطورية في فرض هيمنتها على دول العالم. وألقي القبض على أسانج لأول مرّة في بريطانيا عام 2010، بناءً على مذكرة اعتقال أوروبية، بعدما قالت السلطات السويدية إنها تريد استجوابه على خلفية جرائم جنسية مزعومة، تم إسقاطها لاحقاً. ولجأ، بعد إطلاق سراحه بكفالة، إلى سفارة الإكوادور، حيث مكث لمدّة سبع سنوات، لتجنُّب تسليمه إلى السويد، قبل أن يتمّ أسره من السفارة في عام 2019 بعد تخلّي النظام الإكوادوري الجديد في حينه عنه، فنقل إلى سجن «بلمارش» المخصّص لعتاة المجرمين في لندن، في انتظار الفصل في طلب الولايات المتحدة تسليمه إليها.
تمثّل الصفقة سابقة قانونية كونها تسمح للحكومات بخنق الصحافة الاستقصائية، وتتيح للإمبراطورية الأميركية مطاردة مَن يكشفون حقائق جرائمها
وغالباً، إن الصفقة جاءت في إطار سعي إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى تجنّب كارثة علاقات عامة في ما لو تمّ تسليم أسانج فعلاً إلى «العدالة» الأميركية، في وقت تتعرّض فيه حملة الرئيس الانتخابية لضغوط وتأثيرات سلبية عدة، بما فيها دوره في حرب الإبادة التي ينفّذها جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، في موازاة ارتفاع حظوظ خصمه، الرئيس السابق، دونالد ترامب. وتعليقاً على ما حدث، دان نائب الرئيس الأميركي السابق، مايك بنس، إدارة بايدن على خلفية الصفقة التي عقدتها مع أسانج، وكتب عبر موقع «إكس»: «يجب ألا تكون هناك صفقات إقرار بالذنب لتجنّب السجن لأيّ شخص يعرّض سلامة جيشنا أو الأمن القومي للولايات المتحدة للخطر، أبداً». وكانت إدارة ترامب قد وضعت قائمة من 18 تهمة وُجّهت إلى أسانج 17 منها على أساس مواد في «قانون التجسّس» الأميركي، تبلغ مجموع عقوباتها – حال الإدانة – 175 سنة سجنية. كما بحث مسؤولون من أعلى المستويات – ولا سيما وزير الخارجية السابق، مايك بومبيو، حين كان لا يزال مديراً لوكالة الاستخبارات المركزية – الوسائل الممكنة للتخلُّص من أسانج، الذي اعتبره «مصدر تهديد رئيسي للولايات المتحدة»، فاقترح اختطافه أو حتى اغتياله، لِمَا تسبَّب فيه من إحراج للوكالة التي يرأسها، قبل أن تسقط الفكرة لاعتبارات تخصّ «صورة أميركا».
ومن جهته، قال «حزب الخضر» الأسترالي إن أسانج «ما كان ينبغي أبداً اتهامه بالتجسُّس في المقام الأول، أو أن يعقد مثل هذه الصفقة». لكن جوليان هيل، النائب الأسترالي عن «حزب العمل» الحاكم، جادل قائلاً: «لا ينبغي لأحد أن يحكم على جوليان لقبوله صفقة للخروج من الجحيم، والعودة إلى الوطن. إن صحته هشّة جداً»، ملمّحاً إلى دور لحكومة بلاده في صياغة تفاصيل الاتفاق مع الأميركيين.
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية