عبد الباري عطوان
أنْ يفوز الدكتور الإصلاحي مسعود بزشكيان في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسيّة الإيرانيّة، ويتفوّق على خصمه المُحافظ المُتشدّد سعيد جليلي، فهذا يُضفي الكثير من المِصداقيّة على هذه الانتخابات، والديمقراطيّة الحاضنة لها، والاستِجابة لرغبة الشّعب الإيرانيّ في الإصلاح والانفِتاح بشقّيه الاجتماعيّ والسّياسيّ معًا، وتعزيز استراتيجيّة التّقارب مع الجِوار العربيّ، والخليجيّ منه على وجْه الخُصوص.
بات واضحًا، ومن خلال مُتابعة هذه العمليّة الانتخابيّة أنّ المُؤسّسة الإيرانيّة الحاكمة، أو بالأحرى الدّولة العميقة، تُعطي الأولويّة المُطلقة للمصالح الإيرانيّة العُليا، وتتجاوب إيجابيًّا مع المزاج الشّعبيّ وتوجّهاته ومطالبه في الوقتِ نفسه، وانعكس ذلك بكُلٍ وضوحٍ في نتائج هذه الانتخابات، ولهذا قرّرت إفساح المجال لعودة الإصلاحيين في شخص الدكتور بزشكيان إلى قيادة المُؤسّسة التنفيذيّة بعد غيابهم لأكثر من 19 عامًا، وبالتّحديد مُنذ غياب السيّد خاتمي زعيم هذه المدرسة.
***
لا نعتقد أنّ الرئيس الإصلاحي الجديد الذي خلف السيّد إبراهيم رئيسي سيُحدث تغييرًا جذريًّا للسّياسة الخارجيّة الإيرانيّة، أو إبطاء، أو وقف تطوير برنامجها النووي، لعدّة أسباب رئيسيّة أبرزها أنّ صانع القرار النهائيّ في إيران، أي السيّد علي خامنئي المُرشد الأعلى، هو المرجعيّة العُليا ومصدر التّوازن بين مُؤسّسات الدّولة، وضابِط إيقاع إدارتها ومَسيرَتها.
الأمر المُؤكّد أنّ وجود الدكتور بزشكيان على رأس المُؤسّسة التنفيذيّة في البلاد سيُؤدّي إلى تنفيس حدّة حالة الاحتقان الداخليّ الحاليّة في الأوساط الشعبيّة، والسّعي قدمًا لتحقيق المُصالحة بينها وبين السُّلطة الحاكمة، وانفتاحًا أكبر مأمولًا على صعيد الحريّات السياسيّة والاجتماعيّة، وتخفيف القيود على “الإنترنت” ووسائط التّواصل الاجتماعي، وإجباريّة ارتداء الحجاب، والعمل الدّؤوب لرفع العُقوبات الاقتصاديّة أو تخفيفها، والتّوتّر مع العواصم الغربيّة، ولعلّ تحسّن سِعر العملة الوطنيّة الإيرانيّة، وارتفاع أسعار الأسهم في بُورصة طِهران الماليّة، فور الإعلان عن فوزه أحد المُؤشّرات الرئيسيّة في هذا الإطار.
الغرب بدأ يُدرك أنّ إيران أصبحت قوّةً إقليميّةً عُظمى، وأنّ الحصار المفروض عليها مُنذ أكثر من 40 عامًا أعطى نتائج عكسيّة من حيث بناء صناعة عسكريّة مُتطوّرة جدًّا، حقّقت الاكتِفاء الذّاتي، بل والتّصدير للصّواريخ التّقليديّة، أو “فرط صوت”، إلى جانب المُسيّرات والغوّاصات، وتحقيق الاكتِفاء الذّاتي، كما بدأ الغرب يُدرك أنْ تَولّي رئيس إصلاحي الحُكم ربّما يُساعد في تخفيف حدّة التّوتّر، وعودة تدريجيّة لعلاقات أكثر قوّة، ولكن هذا لا يعني رفعًا سريعًا للعُقوبات.
هُناك أربعة ضمانات رئيسيّة لعدم حُدوث تغيير جذري في السّياسات الاستراتيجيّة الإيرانيّة، ودعم محور المُقاومة وقضيّة فِلسطين على وجْه الخُصوص:
-
الأولى: وجود المُرشد الأعلى السيّد علي خامنئي الذي يُعتبر صاحب الكلمة الأخيرة في هذا المِضمار ويجمع بين الروحيّة والخبرة السياسيّة والإداريّة التنفيذيّة التي يملكها بحُكم مكانته الدينيّة، ورئاسته السّابقة للدّولة، وتتلمذه على يد قائد الثورة الإسلاميّة الإمام الخميني.
-
الثانية: وجود برلمان يُسيطر عليه المُحافظين المُتشدّدين، وسيكون رقيبًا صارمًا على المُؤسّسة التنفيذيّة الجديدة وقرارتها بقيادة الرئيس بزشكيان.
-
الثالثة: قوّة المُؤسّسة العسكريّة المُمثّلة في قيادة الجيش، إلى جانب الحرس الثوري الذي من المُتوقّع أنْ تزداد قُوّته في المرحلة المُقبلة.
هذا كلّه لا يعني أنّ الرئيس الجديد سيكون مُقيّد الصّلاحيّات، فهو عُضوٌ رئيسيٌّ في مجلس الأمن القومي ويملك صلاحيّات واسعة تُؤهّله للتّغيير في الكثير من السّياسات الخاصّة في الدّاخل، فالرئيس الإصلاحي روحاني كان، على سبيل المِثال لا الحصر، صاحب العودة إلى المُفاوضات مع الإدارة الأمريكيّة للتّوصّل إلى اتّفاقٍ سلميٍّ للخِلاف النووي، ولم يقم بأي زيارة لسورية رغم علاقاتها القويّة مع بلاده، على عكس الرئيس رئيسي الذي زارها قبل وفاته، ولهذا من غير المُستبعد أن يُحيي الرئيس بزشكيان مُفاوضات فيينا النوويّة مع الولايات المتحدة، لكن عودة هذه المُفاوضات لا يعني التّوصّل إلى اتّفاقٍ لا يُرضي إيران أو يَحِد من طُموحاتها النوويّة.
اختيار الرئيس الجديد لطاقمه الوزاري سيُسلّط الأضواء على خريطته السياسيّة، الداخليّة والخارجيّة القادمة، خاصَّةً وزير خارجيّته الذي سيترأس المُؤسّسة الدبلوماسيّة، وهُناك توقّعات تُرجّح بأنْ يتولّى هذه المهمّة السيّد عبّاس عراقجي الذي قاد مِلف مُفاوضات فيينا وأحد خرّيجي مدرسة روحاني الإصلاحيّة.
***
مهمّة الرئيس الإيراني الجديد لن تكون سهلة على الإطلاق في ظل التّوتّرات والحُروب التي تشتعل أوزارها في المِنطقة، خاصَّةً في قطاع غزة والضفّة الغربيّة والبحار الثّلاثة العربي والأحمر والمتوسّط إلى جانب المُحيط الأطلنطي، وتَصاعُد سُخونة حرب الاستِنزاف التي يشنّها “حزب الله” بكفاءةٍ عالية، انطلاقًا من جنوب لبنان، حيث تُمارس إيران دورًا داعمًا رئيسيًّا للكتائب الجِهاديّة المُقاتلة باعتِبارها قائدة لمحور المُقاومة وأذرعه الضّاربة ضدّ الكيان الإسرائيلي.
مُسارعة الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي والحاكِم الفِعلي لبلاده بإرسال برقيّة تهنئة ترحيبيّة “حارّة” للرئيس بزشكيان فور الإعلان عن فوزه تعني الكثير، مثلما تعكس الاستِعداد للتّعاون بين البلدين، وتُلخّص بعض الملامح السياسيّة والاقتصاديّة المُحتملة لمِنطقة الشّرق الأوسط في المرحلة المُقبلة، على أرضيّة التّعاون وليس المُواجهة.. واللُه أعلم.
سيرياهوم نيوز 2_راي اليوم