محمد فضل الله
هناك سلسلة من الحقوق والشخصيات القانونية مُنحتْ خلال العقود القليلة الماضية لغير البشر، من حقوق الطبيعة (الجبال والغابات والأنهار، والحيوانات مثل الحيتان أخيراً) إلى حقوق الروبوتات وبرامج الذكاء الاصطناعي، جاءت لتُضيف بُعداً جديداً إلى مساعي الحفاظ على التنوُّع البيولوجي واللغوي، والحديث عن أصناف حيوانية ونباتية ولغوية وثقافية، منقرضة أو آيلة للانقراض، أي فهْم الطبيعة واللغة والثقافة ضمن نفس مِشبَك الأدبيات والإداريات الاحتفاظية (conservationist). لم يعد الحديث يَقتصر على ضرورة الحفاظ على عدم انقراض كائنٍ ما (طبيعي أو لغوي ثقافي) بل حتى منْحه حقوقاً وشخصية قانونية تمكّنه من الاستمرار و«الازدهار».الفكرة الضمنية لمجمل هذا التوجُّه القانوني العلمي-السياسي المستجدّ هو أنّ أي معلومة، في اللحظة التي تَظهر فيها إلى حيّز الوجود، لديها الحقّ في الاستمرار (أن يُحتفَظ بها مؤسّساتياً) وحتى الازدهار. نجادل هنا بأن المعلومة تتموضع وتَتهيكل وتَتعنقد مع معلومات أخرى ويُحتفَظ بها وتصبح ذات معنى من خلال هرمية مؤسّسات إنتاج المعرفة ذات السلطة (اليوم هي الأقسام الأكاديمية) في الحواضر الإمبريالية للحظة تاريخية معينة. بالتالي، فإنّ حقوق المعلومات في أن يُحتفَظ بها تَستتبع حقوق الأقسام التي تقوم بالاحتفاظ بها وتحدِّد نمط تعنقدها مع باقي المعلومات: حق القسم الأكاديمي في الاستمرار ضدّ محاولات إغلاق بعضها (مثلاً إغلاق العديد من أقسام الفلسفة والإنسانيات في الولايات المتحدة) وحتى حقّ الأقسام «المنقرضة» في إعادة إحيائها (مثلاً قسم الفيلولوجيا).
إغلاق قسم هو بمثابة تصفية لكينونة أنطولوجية، لنمط من الوجود (المكتبة المرجعية الخاصّة بها، أنواع العمل المنوطة بالقسم والهويات المكلّفة سياسياً بأدائها، وجماعة فريدة من الجداليات التواصلية).
حقّ القسم في الاستمرار والازدهار مرتبط بمبدأ تنوُّع مَنْ يُنتِجون المعرفة ذات السلطة في هذا القسم، والتفاوض على مَنْ سيحقّ له إنتاج المعرفة فيه. بما أنّ الأقسام الأكاديمية هي مؤسّسات أدائية (performative)، أي إنّ القسم يَخلق موضوعات دراسته ولا يصفها ببساطة (الحديث حالياً متركّز على أدائية قسم الاقتصاد performative economics)، وبالتالي نحن صنيعة القسم الذي يدرسنا، فمن حقّ الأفراد موضوع الدراسة حينها أن يُحدِّدوا مَنْ يحقّ له إنتاج معرفة ذات سلطة عنهم بعد مفاوضات (كَتبتْ ديلارا ياربروغ عام 2019 ورقة بعنوان «Nothing about us without us» لتَعني بذلك المساهمة في العمل البحثي بخلاف الاستخدامات السابقة للعبارة).
مجدداً، ما يُسمّى «الحرّية الأكاديمية»، يعني فعلياً أنّ الحاضرة الإمبريالية تُنتِج المعارف عنّا جميعاً، فيما الأطراف لا يمكنها فعل العكس (ليس فقط لفقدانها الموارد لتمويل الأبحاث)، حقّ الأقوى في استباحة العالم معرفياً. تقريباً ليس هناك أي نصّ أساسي في الدراسات الأميركية كَتبه باحث غير أميركي، وعموماً الدراسات الأميركية خارج الولايات المتحدة (حتى في الدول القادرة على تمويل الأبحاث) تَعتمد بالكامل على ما يَكتبه الأميركيون عن أنفسهم. طبعاً، الحاضرة الإمبريالية يمكنها فرْض ذلك بالقوّة، لكن علينا على الأقلّ أن نُدرِك أنّ ذلك مخالِف للعدالة المعرفية (التي تَجعل العدالة الاقتصادية ممكنة) ونَجعلها في صلب نضالنا السياسي، فالمشكلة أننا لا نزال نؤمن بأنّ النص يَمتلك معنى ذاتياً فنَبدأ بنقاش المحتوى مباشرة كما لو أنه في جوهره لا-سياسي ولا فرق ما إذا كان النصّ كُتب في واشنطن أو في بيروت.
ليس هناك صوت روسي في الولايات المتحدة الأميركية وجامعاتها شبيه بالصوت العربي فيها (أو مثلاً اللاتيني أو الصيني وغيره). لا إدوارد سعيد روسي أميركي يفكّك المكتبة الأميركية حول أوروبا الشرقية (روسيا ضمناً). في قسم دراسات أوروبا الشرقية في الولايات المتحدة ستجد أميركيين (معظمهم WASP ذكور) أو أوروبيين شرقيين غير روس، بولنديين وبلغاريين وغيرهم (اليونانيون، أصحاب الكنيسة الأرثوذكسية، غائبون تماماً عن تشكيل دراسات أوروبا الشرقية هناك)، ونادراً ما تجد باحثاً روسياً في القسم. بشكل عام، ولأسباب عديدة، الروس الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة قَطعوا علاقتهم بروسيا، ولا يَعتبرون أنفسهم معنيين بجسْر العلاقة بين واشنطن وموسكو. لا بل هناك روسي جديد قيد التشكيل، الروسي اليساري الذي يَعمل داخل الجامعة الأميركية ليَكتب هناك ضدّ الاستبدادي الفاشي فلاديمير بوتين ودفاعاً عن إرث الاتحاد السوفياتي، في مجال الحفاظ على البيئة مثلاً، وهو دفاعٌ لا يشاركه فيه الأكاديمي الأميركي التقدّمي الذي يسهب في أبحاث تبرهن على تدمير السوفيات للبيئة وأنهم لم يكونوا أفضل من الأميركيين في هذا المضمار، لا بل يريد في بعض الاتجاهات تطبيق المناهج ما بعد الكولونيالية على دراسة أوروبا الشرقية ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، أي تشبيه إرث الاتحاد السوفياتي بإرث الاستعمار البريطاني والفرنسي (هناك توق لدى التقدّميين الأميركيين للقول إنّ الحكومات الأميركية و«الغربية»، على عللها، ليست أسوأ من الحكومات في الخارج؛ الخارج هو فضاء مخيف من القمع وعدم الانسجام مع الطبيعة).
ما يُسمّى «الحرّية الأكاديمية»، يعني فعلياً أنّ الحاضرة الإمبريالية تُنتِج المعارف عنّا جميعاً، فيما الأطراف لا يمكنها فعل العكس
يُضاف إلى الافتقاد الحاد لتنوّع الباحثين وللباحثين الروس في قسم دراسات أوروبا الشرقية، تمركُز هذه الدراسات في قسم التاريخ في الجامعة الأميركية (أي فقدان التنوّع الأقسامي في دراسة المنطقة)، وهو قسم محافِظ جدّاً منهجياً (على عكس فرنسا منتصف القرن العشرين مثلاً) وقلّما ساورته المناهج ما بعد الحداثية. هناك أيضاً إنتاج للمعرفة البحثية حول روسيا في قسم العلوم السياسية، قسم آخَر محافِظ منهجياً، لكن بالاعتماد أيضاً على المباني التي يشكّلها قسم التاريخ حول روسيا. الدراسات ذات المنطلق الأدبي أو الأنثربولوجي قليلة بالمقارنة (على عكس الدراسات ما بعد الكولونيالية المختصة مناطقياً مثلاً). لكن الأهم هو الانتقال غير المنتظم لأوروبا الشرقية في الجامعة الأميركية من كونها منطقة مدروسة بشكل فائض (overresearched) خلال الحرب الباردة إلى منطقة مدروسة بشكل ناقص (underresearched) بعدها. انتقالات من هذا النوع لا بدّ أنها واضحة بالنسبة إلينا، حين تُموَّل دراسات الشرق الأوسط بشكل كبير ثم يتضاءل التمويل فجأة؛ الانتقال العشوائي يَخلق اختلالات معرفية ومجموعة من الإقصاءات الأقسامية.
بعد نهاية الحرب الباردة وبدلاً من أن تصبح أوروبا الشرقية مركزاً لإنتاج نظريات ومدارس اقتصادية جديدة على اعتبار أنها كانت موقعاً للتجربة الاقتصادية الأطول والأهم في التاريخ الحديث، كان هناك خواء فكري شامل وإنشاءٌ لأوروبا الشرقية كمرتع للفاشية والأحقاد الإثنية التي لا تفسير اقتصادياً لها (المقاربة التي تفسَّر فيها الظواهر الخاصّة بالولايات المتحدة). أوروبا الشرقية هي الهوية المنفية من قسم الاقتصاد الأميركي (في الحاضرة الإمبريالية، كل قسم لديه هوية منفية رئيسية يتقوّم القسم على نفيها)، إذْ نُزعت السمة الاقتصادية عن التجربة السوفياتية، واعتُبرتْ مجرد تمظهر للتوتاليتارية لا تَختلف عن الفاشية. ما أُنتِج لم يعدُ أبحاثاً إدارية حول الانتقال من الاشتراكية إلى اقتصاد السوق المفتوح، لم تؤدِّ إلى نظريات تأسيسية في علم الاقتصاد، بل نوع من كتيبات «الدليل إلى الانتقال».
العام الماضي، وَصَف ماتياس دوفنر، مدير دار نشر آكسل سبرنغر، الألمان الشرقيين (Ossis) بأنهم «مقزّزون» لأنهم إمّا فاشيون أو شيوعيون. هو بذلك كان يَختصر كيف شُكِّلتْ أوروبا الشرقية منذ الحرب الباردة؛ فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي لم يبقَ من هذه الثنائية سوى الفاشية التي تجتاح أوروبا الشرقية بأكملها وليس فقط روسيا. ضمور القسم الذي يُنتِج المعرفة عن منطقة ما يَجعلها تَسير وفق البيانات الخطابية السابقة للقسم، فليس هناك إمكانية لإنتاج خطابات جديدة، ذلك أنه في الحالات العادية يَصعب استدخال أفكار وديناميات جديدة إلى قسم ما، فما بالك إذا ضمر القسم في وقتٍ تكون هذه المنطقة بأشدّ الحاجة إلى مقاربات جديدة.
حين يَنتقد الرئيس فولوديمير زيلينسكي ألمانيا لأنّ مقاربتها للعلاقات مع روسيا «كانت دائماً الاقتصاد، الاقتصاد، الاقتصاد»، فإنه من ناحية يؤدّي الدور الموكل إلى أوروبا الشرقية، أي مهمّة نفي الاقتصادوية (إعدام أي إمكانية لإسهام في النظرية الاقتصادية منطلقها أوروبا الشرقية رغم تجربتها الخاصة)، ويكرّر النقد الفاشي للشيوعية باعتبارها تَختزل الإنسان إلى البُعد المادي، وهو ما يؤدّي إلى سؤال: إلى أي غرب يريد أن يَنتمي زيلينسكي؟ فمحور الغرب الليبرالي الحديث هو الكائن الاقتصادي (homo-economicus)، إلا إذا كان يريد الانتماء إلى الغرب القروسطي الفروسي.
عام ألفَين، عَبَّر بوتين للأمين العام السابق لحلف «الناتو» جورج روبرتسون عن رغبته في ضمّ روسيا إلى «الغرب والعالم المتحضّر». ولكن وفقاً لبنية الإنتاج المعرفي حول روسيا وأوروبا الشرقية، فإن ذلك شبه مستحيل، هناك «أداء للفاشية» (ليس أنهم فاشيون، بل هم تُركوا دون إمكانية بدائل خطابية)، وهناك فقدان للصوت الروسي في قسم دراسات أوروبا الشرقية في الولايات المتحدة (على الأقلّ غير الروس ممثَّلون فيه)، وهناك قسم مصرّ على البقاء ضمن «إمبريالية» قسم التاريخ المحافظ. الحرب في أوكرانيا، أي صِدام الإثنيات التي تؤدّي إلى الفاشية باعتبارها الخطاب الوحيد المتوفّر، تصبح مساراً إجبارياً. وهذا يجب أن يقلقنا بشأن تضاؤل دراسات الشرق الأوسط بعد ذروتها.
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية