الرئيسية » الأخبار المحلية » قصّة العلاقات السورية – التركية [2]

قصّة العلاقات السورية – التركية [2]

 

رأي مقاربات كمال خلف الطويل

 

صحيحٌ بروز دورَي الرئيس التركي نجدت قيصر، ووزير خارجيته إسماعيل شيم، في إصلاح ذات الشأن بين البلدين منذ التوصّل إلى صيغة «أضنة» التوافقية، لكنه كان برضى، بل وباسم، المؤسسة العسكرية – الأمنية المتنفّذة. ولعامين ونصف عام بعد رحيل الأسد، رست تلك العلاقة على مرسىً آمن، لم يؤثّر به سلباً فوز حزب «العدالة والتنمية» في انتخابات نوفمبر 2002 البرلمانية، رغم شبه إسلاميته. مبعث ذلك جملة دواعٍ: أن العسكريتاريا شريكة حكم ضامن، ثم إن إردوغان وصحبه سليلو نجم الدين أربكان، وهو مَن احتفظ له الأسد بوافر احترام، وبرغم عِلمه برضى واشنطن الحارّ بفوزهم. ثمّ ما لبثت العلاقة أن تعزّزت في ضوء موقف العسكريتاريا التركية المعارض لغزو العراق، والمانع لاستخدام أراضي وأجواء بلادها من قبل الغازي الأميركي، معزّزاً برفض نواب وقاعدة الحزب الحاكم المشاركة في الغزو. شعر الأسد (القصد هو الرئيس بشار منذ الآن) بأهمّية ذلك المشترك مع الحكم التركي، بجناحَيه؛ والعسكري بالأخصّ، سيّما وقد شاهد نائب وزير الدفاع الأميركي، بول وولفويتز، يتوعّد الجنرالات الترك بسوء العاقبة على فعلتهم، ومن على شاشة «سي ان ان تورك».

لم يطل الوقت حتى تمّ ترتيب زيارة رسمية للأسد إلى أنقرة، مطلع 2004. في أولها، جلسا بمفردهما، هو ورئيس الأركان التركي، الفريق حلمي أوزكوك، لساعات أربع متصلة، في مسعىً لتنسيق خطوات درء مفاسد الاحتلال الأميركي للعراق، وأخطرها رعايته نشوء كيان انفصالي كردستاني في شماله. في المقابل، كان للحديث مع إردوغان وصحبه طابع استشفاف كنهه والاطمئنان من جانبه، توطئةً لعلاقات صحيّة معه؛ وذلك ما حصل.

ردّ إردوغان الزيارة للأسد بعدها بعام، وفي وقت كان فيه الأخير قد دخل في طور صراع مع الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة وفرنسا، إثر قمّتين متلاحقتين جمعتا رئيسيهما، جورج بوش وجاك شيراك، في حزيران ٢٠٠٤، واتّفقا فيهما على إخراج القوات السورية من لبنان، وفق قراءة شيراك التي ابتاعها بوش، بإفضاء ذلك بالضرورة إلى إسقاط النظام في دمشق على يد جيشه المنسحب قسراً. كان إسقاط النظام قد غدا، آنذاك، غبّ الطلب لديهما: الأميركي، لدوره في تغذية المقاومة المسلحة ضد احتلاله العراق؛ والفرنسي، لعظيم وقديم التياعه لاستعادة «الشام»، بدءاً بلبنانه.

وعليه، فقد بدا القصد من الزيارة شدّ عضد الأسد وهو يخوض مواجهة «1559» بقضّه وقضيضه. مذّاك، اعتبر الأسد أن تركيا الحكم المزدوج مشروع حليف استحقّ التعويل عليه شيئاً فشيئاً؛ فهو جار، وناتوي يؤمّن نافذة ولو صغيرة صوب الغرب ابتغاء، أقلّه، «فض الاشتباك»، وذو نزوع استقلالي؛ ثمّ إنه يوفّر ثقلاً سنّياً يمتصّ حساسيات مجتمعية من مدى العلاقة مع إيران الشيعية، وإنْ بعلم أن الصلة بالأخيرة ثابتٌ من نوع استراتيجي وأمني مميّز.

ورغم أن عام 2005 قد خلا من زيارات متبادلة، إلّا أن شدّ العضد لبث راسخاً خلاله، وقد امتدّ عبر عام 2006. بتحديد أدقّ، لا أزمة اغتيال الحريري ولا حرب تموز فتّتتا من شدّ العضد ذاك، ما رفع منسوب ثقة الأسد بأن مشروع الحليف بات حليفاً، وبامتياز.

لكن الحليف لم يعد ثنائي الطابع، فقد خاض إردوغان، بعونٍ فارق من جماعة فتح الله غولن المتنفّذة في القضاء والشرطة، وعلى مدار عامَي 2007-2008، معركة متدرّجة ولكن مصممة على إخراج الجيش من السياسة، وكسبها.

تبلورت مذّاك رؤية إردوغانية لدور تركيا مزجت ما بين الناتوية والسعي للأوربة، من جهة، وخلطةٍ من عثمانوية وطورانية، من جهة أخرى. في سياق الأخيرة، كانت سوريا عنده مدخله إلى العالم العربي، وحيث لا يجوز تركها لحليف إيراني لها فحسب، ومَن يمدّه بزادٍ عربي في وجه أنظمة عربية تتوجّس من «إسلاميته».

في المقابل، فقد سكنت عقلَ الأسد، ومن تضاعيف تقاربه التركي معطوفاً على ثابت حلفه الإيراني، فكرةٌ شبه أموية دعت إلى تشبيك بحار خمسة ذات كثرة مسلمة بين متشاطئيها؛ هي المتوسط والأحمر والأسود وقزوين والخليج، بما عنته من مدّ أنابيب نفط وغاز وطرق وسكك وموانئ ومطارات، تتيح كلّها انسياباً دافقاً لحركة التبادل والمال والعمالة بين تلك الدول، وتجعل من سوريا واسطة عقد بينها. لكن معاركه السياسية، التي اتّصلت ما بين منتصف 2004 ومطلع 2009، تركت الفكرة في مكانها، مجرّد فكرة… لحينه.

شكّل لقاء الأسد وإردوغان الثالث في دمشق، نهاية 2006، مهماز علاقة مفتوحة بعيدة الأفق، كانت الحاجة سورياً إليها كبيرة كي توازن تدهور علاقاتها بالسعودية، سواء على خلفية اغتيال الحريري أو جرّاء رأي الأسد المعلن من موقفها السلبي من حرب تموز؛ وبالرغم من زيارات ثلاث قام بها لها، صيف 2005 وشتاءَي 2006 و2007، لم تفلح في رأب الصدع بين البلدين، لقوّة قبضة خصميه المريرين، سعود الفيصل وبندر بن سلطان، المطبِقة على عنق الموقف السعودي منه.

ثم سرعان ما انضاف بعدٌ جديدٌ على العلاقة، خلال زيارة لاحقة لإردوغان، ربيع 2007، حبّذ فيها منحه فرصة التوسّط طلباً لسلام سوري – إسرائيلي، في ضوء ما عرضه إيهود أولمرت، رئيس الحكومة الإسرائيلية، عليه من استعداد جدّي لتقديم تنازلات مطلوبة. عشيّتها، جرت عملية استكشاف أميركية لتطبيعٍ مع دمشق (وطهران)، وفق توصية لجنة بيكر – هاملتون في الكونغرس خريف 2006، وذلك بغية إيجاد مخرج للورطة الأميركية في العراق. فجاءت زيارة نانسي بيلوسي لدمشق، في وقت قريب من زيارة إردوغان آنذاك، وانتهت من دون مُخرَج ملموس. تريّث الأسد في الاستجابة لدعوة الأخير شهوراً، شنّ خلالها الطيران الإسرائيلي غارته الكبيرة على موقع الخُبر في الشرق السوري، عبر الأجواء التركية، وبدعوى وجود مفاعل نووي.

زار الأسد إردوغان، في الخريف عقب تلك الغارة، لمكاشفةٍ باتت ملحّة: ارتدادات الجهادية السلفية من العراق بدأت تضرب في الداخل السوري، القطيعة مع السعودية راحت تكتسي بفاعلية مهدِّدة، والملاحقة الأميركية الساخنة داخل الشرق السوري لأهداف «جهادية» تتواتر، فضلاً عن ملابسات الغارة. لحق بذلك كرنفال «أنابوليس» للسلام، أواخر العام، فيما بدا جزئياً كأنه منافسةٌ – ولو صورّية – للدور التركي في مساعي السلام.

جدّد إردوغان، في زيارة سورية له ربيع 2008، عرْض أولمرت توسيطه كي يكون عرّاب سلام سوري – إسرائيلي، عبر مفاوضات غير مباشرة في أنقرة. وافق الأسد لسببين: إكساب تركيا دوراً إقليمياً مهمّاً، وتحييد احتمال ضغطها عليه في التفاوض. وشكّل وفده المفاوض برئاسة رياض الداودي وعضوية سمير التقي وسمير سعيفان وسامي مبيّض (السميران انتقلا إلى المعارضة مع «الربيع»).

تكرّرت جولات تلك المفاوضات مرّات عدّة عبر ذلك العام ولكن بلا نتائج ملموسة، ما استدعى قمة رباعية في دمشق، في أيلول 2008، ضمّت إلى الأسد إردوغان وأمير قطر، حمد آل ثاني، والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي (على خلفية استضافة الأخير مضيفه قبلها بشهرين). سبق تلك القمّة إيفاد الوفد المفاوض إلى واشنطن، في تموز، بحجّة حضور ندوة في معهد بروكينغز، وفعلياً بغرض تطمينها عن حفظ دورها حين يجدّ الجد. كان كلّ ما وطّدته القمة كسر دمشق عزلتها الغربية، جزئياً، وبرغم ثبات النأي السعودي عنها.

جاءت الزيارة السورية الثالثة لإردوغان، ذلك العام، عند نهايته؛ وحملت وعود مخاضٍ سرعان ما بان أنه حمل كاذب. فقد ظنّ إردوغان أن بيده عرض سلام لا يُفوّت، وكلّ ما تبقّى لازماً هو اتّصال مباشر بين طرفَي التفاوض يضع اللمسات الأخيرة على مُنجَزه. لكن أولمرت كان في مدار آخر؛ مدار شنّ حملة عسكرية جذرية ومفاجئة على المقاومة الفلسطينية الحاكمة في قطاع غزة. وعليه؛ رفعت الأقلام وجفّت الصحف.

ولعلّ المرّة الأولى منذ لقائهما الأول، قبل أعوام خمسة، أتى فيها ذكر «الإخوان المسلمين» على هامش العلاقة كانت حين صدر قرار قيادتهم، بطلب تركي، في كانون الثاني 2009، تعليق معارضة «الإخوان» للنظام في ضوء عون سوريا لـ«حماس» وباقي الفصائل، وعلى خلفية معركة غزة. وبتأثير ذات الخلفية، تعافت العلاقات السعودية – السورية، في إطار مؤتمر القمة العربية بالكويت مطلع 2009، وبفضل تغلّب الملك عبد الله، وأخيه ومدير مخابراته مقرن، على سمّية دور ثنائي سعود – بندر المعادي لدمشق.

ثم عاود إردوغان كرّة وساطته بين سوريا وإسرائيل، في زيارته صيف 2009، فاستؤنفت المفاوضات غير المباشرة… ومرّة أخرى بلا ثمار. لم يكتف إردوغان بمسألة التفاوض تلك، بل أبدى رغبته بفتح الحدود بين البلدين دونما الحاجة إلى سمات دخول، وإرساء نظام تجارة حرّة بين البلدين. وتمّ له ذلك، رغم تسبّب الثاني بضيق أصحاب الصناعات الاستهلاكية والحرَفية من المنافسة التركية الطابشة. كما أطلع الأسد على نجاح مفاوضاته مع كرد تركيا في التوصّل إلى تسوية تاريخية لمشكلتهم المزمنة، لِما في ذلك من إطلالة على المشهد الكردي في سوريا ذاتها. ثمّ دعاه ليكون، في أيلول، ضيفه وضيف مؤتمر حزبه؛ وهكذا كان.

شكّل لقاء الأسد وإردوغان الثالث في دمشق، نهاية 2006، مهماز علاقة مفتوحة بعيدة الأفق، كانت الحاجة سورياً إليها كبيرة كي توازن تدهور علاقاتها بالسعودية

 

في المأدبة، أشار إردوغان إلى شخصٍ أن يأتي صوب المائدة. عرّفه للأسد باسم غزوان مصري: رجل أعمال تركي – سوري قريبٌ منه، وهو مَن أشار على علي البيانوني بتعليق المعارضة، ويودّ تجديد جوازه السوري المنتهي المفعول منذ أن غادر مدينته حلب شابّاً في 1983. مَن الرجل؟ من جذور إخوانية في حلب؛ تلقّى دراسته الجامعية في تركيا، وانخرط في أنشطة «الإخوان» السوريين فيها، من جهة، وفي دروب حزب «العدالة والتنمية»، من جهة أخرى، فوصل أن صار نائب رئيس مجموعة رجال الأعمال المرتبطة به (موسياد)، فضلاً عن كونه ضابط الاتصال الرئيسيّ بين «الإخوان» والحكم التركي. كان غرض إردوغان فتح طاقة تعامل مباشر بين «الإخوان» والنظام. أشار الأسد لأمنه بعدم تجديد جواز غزوان؛ فكانت تلك باكورة صدع.

في تلك الآونة، عاد الأسد ليطرق حديدة فكرة «البحار الخمسة»، وفي الخلفية رفضه تجديد اتّفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي لما اعتور مسوّدته من مسارب تدخّلية في رسم السياسات السورية. لكن برود العلاقة النسبي مع طهران – بحُكم الخلاف المستعر بين دمشق وبغداد لحدّ تلويح رئيس حكومة الأخيرة، في آب 2009، بتقديم شكوى إلى مجلس الأمن ضد الأولى، ومطالبته بمحكمة دولية تقاضي الرئيس السوري بتهمة دعم نشاط «القاعدة» في العراق، فرض تأجيل مقاربة جادّة للمسألة.

حين عاد إردوغان زائراً، في ختام 2009، حمل معه حنَقاً ثنائي الدوافع: ممانعة الأسد التامّة في أي تطبيع مع «إخوان» سوريا (لا تأثير لذلك على علاقات دمشق الحسنة مع «إخوان» باقي الأقطار العربية، جذره تجربة 73-82 المريرة مع السوريين منهم)، وجمود مسعى السلام مع إسرائيل (والذي لم يُفد في تحريكه حوار الأسد مع كلّ من السيناتورين جون كيري وجورج ميتشل، في النصف الأول من العام).

كان عام 2010، بحقّ، عام تأسيس زلزال 2011 وما تلاه، وفي أكثر من موقع. بدأ العام بحركتين متباينتين للأسد: في الأولى، عقد لقاء ثلاثياً في دمشق ضمّ إليه الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، أواخر شباط منه. وظهرت صورة اللقاء وأيديهم متشابكة لتضفي معنى الحلف الوثيق، ودليلاً على تصفية ذيول «شكوى المالكي». في المقابل، فقد توافق، في الثانية، مع نظرائه الترك والسعوديين والقطريين على دعم قائمة إياد علاوي في الانتخابات النيابية القادمة في العراق، في نيسان من العام، بما بدا كأنه عربون مودّة للرياض بالذات، زاوج استضافة سعد الحريري في دمشق.

لم تُسرّ طهران بهذه الشراكة واعتبرت موقف دمشق مخالفاً لروح «شباط»، وضغطت بما في وسعها كي تتملّص الأخيرة من التوافق إيّاه. ذهب الأسد إلى الدوحة، في أيار، ليستكشف مخرجاً من الأمر، فوجد مستقبِله، باسمه وباسم نظيرَيه التركي والسعودي، مصرّاً على خيار علاوي بعناد، بل وراح يبدي تذمّره من نبأ التوافق المبدئي بين دمشق وطهران حول الغاز. قاد التباين في الدوحة، في غضون أسابيع، إلى تجميد الاتفاقات الاقتصادية العديدة الموقّعة بين البلدين، مؤشّراً على جدّيته.

لكن المؤشّر الأهم على أن شيئاً غير صحّي قد طرأ على الطقس التركي – القطري نحو سوريا جاء مطلع آب، حين أعلن مجلس شورى «إخوان» سوريا تبديل قيادته «الحمائمية» بأخرى «صقورية»، ممثّلةً برياض الشقفة مراقباً عاماً، وفاروق طيفور وحاتم الطبشي نائبين له. بدت رسالة تركية/ قطرية بامتياز، وبعلم أن الثلاثة من فارّي قيادات «الإخوان» الميدانية، الحموية، إبّان صراع 79-82.

لبث موقف الأسد، لجهة علاوي، رجراجاً، فأتاه نجاد زائراً، في أيلول، بغرض ثنيه عن التزامه به، ولم يفز ببتّ. في المقابل، ومضت بينهما شرارة إيجابية تمثّلت بالعرض الإيراني مدّ خط غاز عبر العراق ووصولاً إلى سوريا ولبنان، ما رمَز للأسد كواحد من مداميك دعوته.

والحاصل أن تدافع جملة تطوّرات مؤثّرة خلال الربع الأخير من العام كان صاخباً.

كان أولها، دعوة المرشد الإيراني علي الخامنئي الأسد لزيارته، مطالع أكتوبر، وفيها أقنعه بالتخلّي عن خيار علاوي بعدما أطلعه على حصول توافق إيراني – أميركي حول نوري المالكي رئيساً للحكومة العراقية مجدّداً. كان لذلك فعل الصدمة في أنقرة والرياض والدوحة، سيما وقد عرفوا أيضاً بالاتفاق المبدئي بين طهران ودمشق حول خط الغاز (وضمانة إيرانية بانضواء العراق في مشروعه). عنى الخطّ للأطراف الثلاثة مزيداً من التمكين لإيران في الشمال العربي، على حساب مصالحهم فيه.

وثانيها، إبطال حزب الله، منذ أواخر الخريف، التزامه بسعد الحريري رئيساً للحكومة، بعد اكتشاف تمريره لـ«دير شبيغل» الألمانية نويّات قرائن اتّهمته باغتيال والده (كان قد أسقط الاتّهام عن الأسد، بطلب سعودي).

ثم أتى إردوغان زائراً، أواخر أكتوبر، وفي جعبته شكوى وطلب؛ أمّا الأولى فعن «خذلان» الأسد له في قضية علاوي، وأمّا الثاني فوجوب تسلّم دمشق السجناء السوريين الذين قاتلوا في صفوف حزب العمال الكردستاني، ما بين 1984 و2009؛ ذلك أن الاتفاق بين الحكومة والحزب نصّ على الإفراج عن سجنائه؛ ولمّا كان ألفٌ منهم سوريّين، فما لهم سوى العودة إلى بلدهم. رفض الأسد الطلب بوصفهم أصلاً تركاً. صارت الغصّة غصّتين الآن، لكن ثالثةً راحت تكتمل قواماً مع فقدان نصر الله ثقته بسعد بالمليان، وتلويحه بفرط حكومته.

دخل نيكولا ساركوزي في الزحام ودعا الأسد لزيارته، أوائل كانون الأول، في محاولة سافرة لتقطيع أوصال التحالف السوري – الإيراني، وأولاً في لبنان. وكان الفشل نصيبه.

قُرعت أجراس القلق على مداه في العواصم الثلاث: الرياض وأنقرة والدوحة. ناب وزيرا خارجية قطر وتركيا عنهم في جولات مكّوكية بين بيروت ودمشق، حوالي مفصل عامَي 2011/2010، سعياً لإقناع نصر الله بالامتناع عن التصعيد، ولم يقتنع. حاولا جذب الأسد ليتدخّل فكان جوابه الباتّ: منذ غادر الجيش السوري للبنان وحزب الله مَن يُمثّلنا فيه، ولا أتدخّل في قراراته، أمّا سورياً فلا مشكلة لدينا مع سعد. ترجم الحزب إصراره بإعلان استقالة الوزير الملَك فيما سعد كان مجتمعاً بالرئيس الأميركي جورج بوش، أواسط كانون الثاني 2011، في مشهد إذلال ميلودرامي.

وبعد «نوبة صحَيان» دُقّت، على مدار عقد، في أرجاء العلاقات السورية بكلٍّ من تركيا وقطر، فإن 17 كانون الثاني 2011 هو يوم عزف «نوبة رجوع» بكلّ النحاسيات. فما إن خرج الحريري من البيت الأبيض ليسمع نبأ انفراط عقد حكومته حتى دُقّت أجراس الإنذار في العواصم الثلاث. طلب إردوغان وحمد لقاءً عاجلاً بالأسد، فتحدّد له ذلك اليوم موعداً في دمشق. وسرعان ما تبيّن أن للزيارة هدفين: تكتيكي وعاجل، فحواه طلبهما إعادة تكليف سعد الحريري بتشكيل الوزارة؛ واستراتيجي شبه عاجل خاطب الأسد بما يمكن تصوّره كالتالي: هذه فرصتك كي تتجنّب مصير زين العابدين (كانت قد مضت أيام ثلاثة على لجوء زين العابدين بن علي إلى السعودية، فارّاً من وجه انتفاضة شعبية لعب فيها الإسلاميون دوراً مؤثّراً)، وأنت لا تستحقّه. نحن نريدك، وشعبك يحبّك لكن ذلك لا يمتدّ إلى نظامك. لقد نصحناك لقرابة عام ونصف عام بأن أفضل السبل لمصالحة جادة بين نظامك وبين الناس هي في احتواء «الإخوان» ضمنه، فتلك فجوةٌ لا تُسدّ إلا بشراكة معهم. ثم أن مسايرتك لإيران، سواء في لبنان أو لجهة خط الغاز أو غيرها، فاقت احتمالنا، ومثْلنا السعودية، لها، ولذا فتخفّفُك منها بات ضرورةً لدينا.

في المقابل، يمكن تصوُّر ردّ الأسد على الشكل التالي: مسألة الحريري ليست عندي، كما سبق وأسلفت. أمّا إقرانكم حُسن علاقاتنا معكم بضرورة تقويضها مع إيران فغير مقبول. إن مصلحتنا تكمن في الاحتفاظ بها، وما ترونه من توثّق أكبر في علاقتنا بإيران فلأن لديّ جارة ليست جارة لكم هي إسرائيل، ولأنه ليس هناك من اتحاد سوفياتي ولا مصر ولا عراق؛ والاكتفاء بكم يظلمكم ويظلمني. أمّا عن «الإخوان»، فطالما لاينهم والدي لأبعد الحدود منذ تولّيه، فكان أن قابلوه، في شباط 73، بتظاهرات الدستور. عفا عن معظم قادتها في أقلّ من عامين، وإذا بهم قد غطّوا على عنف «الطليعة المقاتلة» لعامين. مع ذلك، أفرج عن قادة «الإخوان» المتبقّين في السجون، في نيسان 78، فما إن خرجوا حتى ذهبوا وضمّوا تنظيمهم إلى جانب «الطليعة» في الحرب المسلحة علينا. حاول الوالد فطمهم عن غيّهم بعربون مصالحة وذلك بالإفراج عن 500 من رؤوسهم، اختارهم الوسيط الإخواني، أمين يكن، بذاته، في آذار 80، فماذا كانت النتيجة؟ المزيد من الولوغ في العنف. لا بل ذهب الوالد بعدها إلى إرسال مَن فاوضهم مرّتين: في 84 و87، فكادوا أن يطلبوا منا تسليم الحكم لهم. كيف لي أن أثق بهؤلاء، سيما وهم لعبوا ويلعبون بالورقة المذهبية بخفّة لا تجوز؟ عُزفت «نوبة الرجوع» مرّات في ذلك اليوم الحاسم.

أختم بواقعتين:

الأولى، الخميس 20 كانون الثاني 2011، تناول الراحل أ. هيكل، في «الجزيرة»، الحدث التونسي، ثم عقّب بقوله: سيكون الردّ في لبنان. سارعتُ لمهاتفته حال انتهائه قائلاً له: أصبت، ولكن على مسافة 85 ميلاً شرقيّ بيروت… إنها دمشق. علّق بـ«سنرى».

الثانية، جرت في 8 شباط 2011 خلال مأدبة عشاء أقامها حمد بن جاسم لحضور مؤتمر الاتحاد البرلماني العربي في الدوحة. انتحى بأحد الحضور الثقال قائلاً له: حسني موشك على الاقتلاع، ومعمّر على الطريق بعده، والأسد سيأخذ منّا 6 أشهر بالكثير؛ لكنه زائل قبل عيد الفطر. ذُهل المستمع وتشكّك بالقدرة على إسقاط الأسد بالذات، فأجابه حمد: «الجزيرة» والمال كفيلان بتدبّر الأمر… وكان ما كان.

 

(يتبع)

 

سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية

x

‎قد يُعجبك أيضاً

مجلس الشعب يقر مشروع قانون تعيين الخريجين الأوائل ببعض الكليات في وزارة التربية ويمنح ‏الإذن بالملاحقة القضائية لثلاثة من أعضائه

أقر مجلس الشعب في جلسته السادسة عشرة من الدورة العادية الأولى للدور ‏التشريعي الرابع المنعقدة اليوم برئاسة حموده صباغ رئيس المجلس مشروع ‏القانون المتضمن “جواز تعيين ...