بقلم د. حسن أحمد حسن
بسلام ويقين انطلقت مُسَيَّرةُ اليمانيين تحمل تحت جناحيها ما يغير الموازين، ويرد كيد المعتدين الغاصبين إلى نحورهم ولو بعد حين… يافا المدينة الفلسطينية الوادعة المشهورة ببيارات برتقالها” اليافاوي” وبإطلالتها البحرية افتقدت معالم هويتها الفلسطينية مذ دنسها المحتلون القتلة المستجلبون من كل أصقاع الكون واغتصبوها كغيرها من المدن الفلسطينية عام 1948، وشطبوا اسم يافا من التداول متوهمين أنهم بذلك يستطيعون شطبها من الوجدان والذاكرة، وهيهات لهم هيهات، فكثير ممن بقوا أحياء بعد اغتصاب يافا وتهجير أهلها ما يزالون يخبؤون في صناديقهم مفاتيح بيوتهم ويتناقلونها جيلاً بعد جيل، واسم يافا الحبيبة تجاوز الحدود الجغرافية لفلسطين المحتلة واستوطن قلوب الأحرار وحط رحاله المؤقتة في أكثر من قلعة مقاومة، وإحدى تلك القلاع يُعْرَفُ فرسانها بأنهم ما خضعوا لغازٍ ولا محتل عبر التاريخ، ولهم يُنْسَبُ السيفُ اليماني المشهور بحدته وقدرته عندما كان للفروسية معاييرها الخاصة التي تميز الجبان من الشجاع والرعديد من مقتحم الموت بلا خوف ولا وجل ولا تردد، واليوم يثبت أهل اليمن أنهم على قدر المسؤولية، وهيهات لتجار الدمار وإشعال الحروب أن يحققوا أهدافهم الشريرة عندما يواجهون الأصالة والإرادة وعشاق الكرامة والسيادة.
ها هي اليمن قد أثبتت أن رجالها أهل النخوة والمروءة ونصرة المستضعفين والمظلومين، وأن مشاركة الوجع ومحاولة التقليل من تداعيات حرب الإبادة الجماعية من أولى الواجبات التي لا تقبل التسويف ولا سياسة التلاعب بالألفاظ والكلمات، فالميدان هو الفيصل والشاهد والحكم، وقد استطاع يمن العزة والاقتدار أن يفرض الحصار على من يحاصرون غزة ويعملون على وأد شعبها حياً أمام بصر العالم وسمعه، وليس هذا فحسب، بل تم اعتماد خطوات متعددة متقدمة، منها استهداف الداخل الاستيطاني بالصواريخ والمسيرات، ولا سيما ميناء أم الرشراش “إيلات” الذي أُعْلِنَ إفلاسه وبقاؤه في حالة أقرب ما تكون إلى الشلل وتوقف العمل، وعلى الرغم من ذلك بقيت حكومة نتنياهو العنصرية مصممة على الإبادة الجماعية والتهجير القسري وسفك المزيد من دماء الأبرياء من أطفال غزة ونسائها وعجائزها وتدمير مظاهر الحياة فيها بدعم أمريكي وأطلسي وخنوع مُخَيّم على الآخرين، وهذا ما دفع لاتخاذ خطوة متقدمة وإطلاق الطائرة المسيرة اليمنية المباركة “يافا” باتجاه الكيان الغاصب، ولم تكن الوجهة ميناء إيلات وما حوله من مواقع عسكرية معادية، بل قلب “تل أبيب” أي إلى مدينة يافا المحتلة، فكانت الصدمة، وانتشر الذهول والمفاجأة بين صفوف قادة الكيان الغاصب ومستوطنيه وكل من يدور في فلكهم النتن الآسن.
نعم لقد وصلت الطائرة اليمنية يافا إلى حيث أريد لها أن تصل، وحلقت بكل أمان ويسر فوق أكثر مناطق العالم تأميناً بغطاء محكم من أحدث منظومات الدفاع الجوي في العالم لضمان سلامة الأجواء، لكن يبدو أن فعالية هذه الضمانة مشروطة بألا يكون المهاجمون يحملون هوية المقاومة، لأن كبريات شركات تصنيع السلاح العالمي لم تفلح حتى الآن ــ ولن تفلح قط ــ في مواجهة الموجات المتتالية من طوفان الإرادة التي تحمل المقاومة هوية والإرادة سلاحاً والشهادة بوابة عروج إلى الخلد، وليس أمام أنصار الجبروت العسكري والبطش والقتل والإبادة الا الامتثال عاجلاً أو آجلا للتسليم بحقيقة العجز عن تغيير هوية من يحملون المقاومة ثقافة وسلوكا ويقيناً وطريق حياة وأنموذج عيش لا يقبل أنصاف المواقف ولا أنصاف الخطوات، ولا أنصاف الرجال.، ومن الطبيعي أن يسقط هؤلاء من حساباتهم أنصاف الحلول وأنصاف الحقوق المرتبطة بالكرامة غير القابلة للتجزيء أو التبعيض.
بعيداً عن الغوص في التحليل والمعاني التي حملها وصول “يافا: الطائرة المسيرة” إلى يافا التي أصبح اسمها تل أبيب، ويعتمدها الكيان عاصمة مؤقتة له على أمل توسيع احتلاله أكثر وإرغام العالم على الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية له إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، إلا أن تحليق يافا في الأجواء لمسافة ألفي كيلومتر أو أكثر، ووصولها إلى شواطئ يافا المحتلة وتقدمها إلى أن وصلت للهدف المحدد، وانجاز ما هو مخطط لها يؤكد مجموعة من النقاط والأفكار التي ترقى إلى مرتبة الحقائق والوقائع، ومنها:
• النجاح في تخطي كل منظومات الدفاع الجوي المجهزة ووأد مقولة إن أجواء الكيان الغاصب أكثر الأجواء في العالم حصانة وأمنا، وأن جو تل أبيب آمن مئة بالمئة، فإذ بـ “يافا اليمنية المسيرة” تعصف بكل ذلك، وترغم المستوطنين ولأول مرة على رؤية وسماع حقيقة مجردة ومناقضة.
• تحليق الطائرة فوق العديد من أكثر المنشآت الإسرائيلية أهمية استراتيجية يعني إمكانية الانقضاض على أي من هذه الأهداف، وهذا كفيل بإحراق العديد من الأوراق التي يستعرض بها نتنياهو وجنرالاته وأركان حكومته معالم قوتهم التي يظنونها أسطورية، وإذا بها غير ذلك.
• كما أن ملحمة طوفان الأقصى حققت أهم أهدافها الإستراتيجية منذ الساعات الأولى على انطلاقتها في السابع من تشرين الأول عام 2023م، ولن تستطيع تل أبيب تغيير معالم اللوحة العامة التي تشكلت على الرغم من دخولها الشهر العاشر في أقذر حرب عرفتها البشرية، واستخدمت أكبر طاقة تدميرية منذ الحرب العالمية الثانية، وحتى لو تمكن القتلة المتوحشون من محو غزة فوق الأرض وقلب ما في باطنها، وحتى لو لم يبقَ طفل غزاوي واحد فهزيمة السابع من تشرين الأول مكتملة الأركان وباقية وتتجدد مفاعليها، والأمر ينسحب على الرد العدواني المتوحش ضد أبناء اليمن ومحاولة استعراض القوة التدميرية الإسرائيلية، فما حققته” يافا اليمنية” مكتمل الأركان، ولا يمكن تشويهه أو التقليل من آثاره الزلزالية على الكيان وداعميه، فاليمن المقاوم المقتدر منذ أشهر يتحدى علانية أعظم قوتين بحريتين في العالم، ويرغمهما على تعديل مخططاتهما بما ينسجم ومعطيات المتغير الجيوبولتيكي اليمني الذي فرض نفسه باقتدار على الجميع، ومهما بلغت قوة الكيان الغاصب تبقى أقل بكثير من مجموع القوتين المذكورتين، فضلاً عن أن الجبروت العسكري الإسرائيلي ليس ذاتي التكوين والأداء، بل قائم بغيره، وهذا ما يدركه المقاومون في اليمن وبقية أقطاب محور المقاومة، وعليه يبنى الكثير.
(موقع سيرياهوم نيوز-1)