حوراء حوماني
ظلّ كتاب «تسطيح العالم: أزمة الثقافة وسطوة القواعد والمعايير» للفرنسي أوليفييه روا رفيقي لأيام خوّلته حجز مساحة من تفكيري حتى وأنا أستمع إلى مشاركات طلاب الإعلام أثناء محاضرات مقرّر «نظريات إعلامية» في إحدى الجامعات اللبنانية. أثناء النقاشات الدورية، كانوا يشرحون علاقتهم بهواتفهم الذكية وبمواقع التواصل الاجتماعي، ويتشاركون الحديث عن سلوكيات متشابهة وتجارب شعورية متنوعة، كأن يصير العالم الافتراضي هو العالم الأساسي في حياتهم، فلا تكون هناك «عودة إلى الواقع على الأقل ما دام المرء متصلاً بالإنترنت» على قول روا. فهل تحوّلت حياة الشباب إلى عوالم افتراضية مكتفية ذاتياً، حيث «ضراوة الاستقطاب» والأرض التي تدور حول كمية المعجبين، وحيث لا يرى الفرد نفسه إلا عبر عيون الآخرين؟فتحت مواقع التواصل الاجتماعي الباب على جدليات كثيرة لا بد من حفريات متعددة الطبقات للإجابة عنها أو مناقشتها بالحد الأدنى، فلم يعد ممكناً الحديث عن ثقافة مكتسبة أو شهرة متراكمة أو طبيعة محتوى أو وتيرة مشاركة أو حجز مكان افتراضي دائم من دون الولوج إلى النفس البشرية وسلوكياتها التي أنتجتها هذه الشبكات.
Blade Runner 2049 بمثابة تحذير للبشرية
ولم يكن الفضول العلمي وحده الحافز لفتح باب هذه النقاشات مع الطلاب في الجامعات وتعبئة استمارات ذات صلة، بل القلق من التحولات التي يشهدها العصر وخطرها على مستقبل جيل زي «Generation Z» وموقع الثقافة ومكانتها مع كل ما يتطوّر حولنا. أكثر هؤلاء الطلاب يرون أنّ هواتفهم النقالة صارت تعدّ امتداداً لحواسهم وتشكّل «أنا ثانية» لكل مستخدم منهم، فيتسمّرون أمام شاشاتهم الصغيرة لأكثر من أربع ساعات يومياً بشكل يجعل تصنيفهم ضمن كثيفي الاستخدام، إذا ما استعرنا تصنيف نظرية الغرس الثقافي للهنغاري جورج غربنر، أي توازياً مع ما كان يسمى بـ «كثيفي المشاهدة» Heavy Viewers في دراسة علاقة المشاهدين بالتلفزيون في القرن الماضي. ولا شك في أنّ هذه المتابعات تأتي على حساب الإعلام التقليدي (التلفزيون والإذاعة والصحف) في فارق واضح يحدّده الطلاب بأقل من ساعتين في اليوم كحد أقصى، إن وجدت هذه المتابعة من الأساس. فهم يتابعون المنصات الأكثر سرقة للوقت، وكم من طالب قال إنّه بدأ بالتصفح في العاشرة مساءً على أساس متابعة المستجدات غير الإخبارية بطبيعة الحال، ليجد نفسه وقد قاربت عقارب الساعة الثانية فجراً. يكتشف أنّ الزمن مرّ وهو يتفرج على تفاصيل حياة ليست له، ويبحث عن المزيد من التجارب التي يعيشها الآخرون وقد يغرق في مجاملتهم، فلا يكتسب من هذا الوقت إلا «الفرجة»، معتقداً أنّ هذه الأخيرة كفيلة بتغيير مزاجه أو بضمان هروبه من الواقع Escapism في ظل الضغوط الحيوية اليومية.
لكنّ إجابات كثير منهم بأنهم يستخدمون هذه المنصات لحاجات معرفية وليس ترفيهية فقط، من ضمن الحاجات الخمس التي تحدّدها نظرية الاستخدامات والإشباعات للأميركي إلهيو كاتز تطرح تهديداً لناحية مدى دقة هذه المعطيات المتواجدة على الإنترنت مقارنة بما تقدمه وسائل الإعلام التقليدية التي يُفترض أن تقوم بالتحقّق من أي حدث قبل تحويله إلى أخبار. وهذا يثير تساؤلات عدّة في زمن الذكاء الاصطناعي وقدرته على جعل شخصية ما تقول ما لم تقله في فيديو يبدو أقرب إلى الحقيقة منه إلى الخيال التكنولوجي. وفي هذا العصر أيضاً، تنتشر الأخبار الزائفة بالعشرات بين كل خبرين دقيقين، فهل يستطيع الطلاب كشف ذلك، أو هل يمتلكون قدرة مقاطعة الأخبار من مصادر متعددة، وخصوصاً أنّ رغبة المسارعة في الضغط على زر الإرسال والمشاركة يفوق القدرة على الصبر والسيطرة على الرد الفعل الفوري مع كل خبر جديد يصل وتنير له الشاشة الصغيرة. وفي حال افترضنا جدلاً أن المعلومة المحصَّلة دقيقة، لكن أمام هذا التدفق الهائل للمحتوى الذي قد يتوهّم الطالب أنه يضيف إلى ثقافته، تبقى الأزمة الحقيقية في عدم ثبات أي معلومة في الذاكرة طويلة الأمد بسبب كثرة الإلهاءات البصرية والسمعية المرافقة.
يعترف بعضهم بميلهم إلى طلب المساندة المعرفية من أدوات الذكاء الاصطناعي المجانية في معظم تجاربهم، استسهالاً منهم في الحصول على المعلومة بأقل وقت ممكن تماشياً مع سرعة الزمن، وخصوصاً مع تقديم خدمة الحفاظ على سرية المصدر عبر تحويل هذه المعلومات إلى نسخة لا يمكن للأستاذ وأدواته التحققية كشف أساسها القائم على النسخ واللصق. فطبيعة هذه المواقع ومحركات البحث أشبه ما تكون بالفخّ لناحية سهولة ويسر الحصول عن البيانات وقرب تناولها من متاجر الجملة والتجزئة الإلكترونية، فهي على بُعد كبسة زر لكنها رغم كل هذه الصفات لا تمتلك بعد موثوقية لمشاركتها أو اعتمادها.
آدم زيغليس ـ الولايات المتحدة
لذلك يكون التساؤل الأكبر في هذا المضمار: كيف سيبني هؤلاء الطلاب ثقافاتهم الشخصية في مواجهة فرضية روا بأنّ الإنترنت «لا تبتدع ثقافة جديدة لكنها تدمر فكرة الثقافة نفسها»، وخصوصاً أن الطلاب يتهربون من أي مجهود ذهني ووقتي يمر بين دفتَي كتاب، ومع غياب شبه تام لخيار الاعتماد على الصحف التي تعد حتى اليوم الوسيلة الإعلامية الأكثر جدّية التي تقدم محتوى لا يزال مصدراً يومياً للإذاعات والتلفزيونات وحتى لمواقع التواصل الاجتماعي نفسها. فقلة نادرة منهم تتابع الصحف عبر جهود الأخيرة للتواجد على المنصات المتنوعة، في مقابل كثيرين كانوا يتصفّحون الجرائد الورقية التي كنت أحضرها معي إلى الصف بغرابة، ما تلبث أن تتحول إلى إلفة من دون أن تضمن لي اعتيادهم على مطالعتها يومياً ولو بالنسخ الإلكترونية التي أرسلها لهم كل صباح عبر غروبات الواتس. هو تمرين ذهني قبل أن يكون حواسياً أو يدوياً آمل أن يتخذوه كنمط يومي وأبدي في سبيل بناء الثقافة الرفيعة. فتلك الساعات الطويلة يقضونها وهم مأسورون بهواتفهم التي قتلت كل الاختراعات التي سبقتها، كالكاميرا والساعة والمنبه والهاتف الأرضي والراديو والتلفزيون وحتى الكتب الورقية، تغلبها اليوم مجموعة منصات يتصدرها تطبيق انستغرام بحسب آراء معظم الطلاب. وبما أن التطبيق المذكور قائم على مشاركة الصور على حساب النص، فهذا يدعم فرضية ميل الفئة العمرية الشابة نحو نمط بصري متسارع ومختصر لمشاركة محتوى ما، ما يعدّ أحد أخطر التحوّلات في ذهنية الجيل الصاعد نحو نسق الثلاثين ثانية 30 Second Mode، فإن لم يقدم الفيديو دَسماً فورياً في الصنارة، يتخذ المستخدم قراره النزق بمتابعة التصفّح، ولا يوقفه عن الركض بإصبعه إلا ما يشبع نهمه نحو المضمون الأسرع في التصيّد. وبالتوازي، لم يعد لدى المتصفح الكثير من الصبر لقراءة نص قصير من ثلاثة أسطر، ما يؤسّس لنسق الثلاثين كلمة 30 Words Mode هذه المرّة. وهذا التحوّل لا شك في أنّه سينعكس على جودة مهنة الصحافة في المستقبل، وهي التي تستند إلى تراكم القراءات والمطالعات والاطلاعات لتكوين الثقافة اللازمة في سبيل إثبات الذات، وخصوصاً مع تهديد الذكاء الاصطناعي لمستقبل هذه المهنة وإمكانية استبدال الصحافيين «المثقفين والإنسانيين» بصحافيين آليين.
وقد يشير طلاق هذا الجيل شبه التام مع وسائل الإعلام التقليدي إلى محاولتهم الانخراط في عملية صناعة المحتوى أو على الأقل التعليق على محتوى ما مع امتلاك حرية مشاركته، بدل البقاء ضمن فئة المتلقّي السلبي أمام شاشات التلفزيون التي صارت تستخدم كواجهة عرض متصلة بالإنترنت أكثر من كونها وسيلة بحد ذاتها. وهو اتجاه حديث نسبياً صار يعدّ نمطاً عالمياً يُعرف بالانتخدام Produsage أي الدمج بين الإنتاج والاستخدام لنشر محتوى ما أو للتعبير عن الآراء والمواقف إزاء الأحداث أو إبراز صورة الذات وحتى مشاركة المشاعر علناً مع الآخرين على الشبكة. وهذا المصطلح يؤشّر إلى تلاشي مفهوم الجمهور في العصر الحالي، ما يضيف تحدياً جديداً للإعلام التقليدي ولدارسي اختصاص الإعلام ومدرسيه. فمن هو الجمهور في هذه المنصات الجديدة؟ وكيف يمكن دراسته ورصد ميوله وتحديد اتجاهاته؟ أسئلة برسم الوقت الذي يجيد الركض في هذا الزمن، على أمل إيجاد إجابات واضحة وشافية بهدف معرفة كيفية رسم خريطة طريق للتحولات التي نعيشها وستؤثر علينا ليس فقط كمستخدمين أو كأساتذة إعلام، بل ستغيّر طريقة ومضمون ما درسناه نحن لسنوات خالية. فهل تفرض علينا هذه التحوّلات نظام تفاهة أم هو تحوّل حتمي سنتعايش معه مرغمين، ونحاول مراراً التعديل على النمط العرفي إلى نمط تدريسي مرن يشبه الواقع؟
لكن إلى جانب كل هذه الإشكالات المعرفية، يعيش الطلاب تجارب اجتماعية ذات بعد نفسي على هذه المنصات. فمن بين ما أفرزته النقاشات الأسبوعية أيضاً في المقرر، مواجهة الطلاب مصطلحين جديدين يتصارعان باستمرار في أذهانهم النارية. هم يتعاملون مع الهاتف النقال كجزء من أجسادهم، يلتصق بهم نهاراً في كف أو جيب ثم يدخل معهم إلى المرحاض ويعود لينام أسفل رؤوسهم ليلاً. ما يحكمهم في هذا الإدمان غير المعترف به هو انتشار ظاهرة التعلق بهذه المنصات تحت مسمى متلازمة FoMO/ اختصاراً لـ Fear of Missing Out أو «الخوف من أن يفوتنا شيء». مصطلح سُجل في قاموس «أكسفورد» في عام 2006 مع أنه سبق أن استخدم في حقول متنوعة سابقاً مثل التسويق والأعمال ثم في المجالات التكنولوجية. فديموقراطية المنصات وسماحها لجميع البشر بتسلّقها والظهور عبرها، جعلت مفهوم التعبير عن الرأي سائداً لكن معرّضاً للتهشّم. هناك إيحاء ظاهري بأنّ هذه المنصات تفتح فضاءاتها الافتراضية لكل الآراء مهما اختلفت أو حتى تناقضت، وتُعدّ هذه الميزة قاتلة لنظرية مثل «دوامة الصمت» للألمانية إليزابيث نويل نيومان. إذ سيتجرأ ذو الرأي المخالف على التعبير عن مكنوناته من دون خوف، وهذا ما قد تطالعنا به حسابات حقيقية تارة ووهمية طوراً تتقيأ حقدها وتطرّفها بكلمات في العالم الافتراضي. وهنا، يعترف بعض الطلاب بالتردّد في مشاركة آرائهم علانية على مواقع التواصل التي تعيش على اللايكات حيناً ولكنها تعتاش على الشتائم حيناً آخر. وهذا التردّد يتمظهر بقوة في القضايا الجدلية خوفاً من الرفض أو النبذ أو على الأقل مواجهة عدم الإعجاب على منصات التعطّش لتعداد الإعجابات، وهو ما صار يُختصر بـ FOP أي Fear of Posting أو «الخوف من النشر». فالدوامة هنا لا تنطبق عليهم فقط، بل تطبّق أيضاً على أفكارهم. هو الخوف من العزل الإلكتروني من معارفهم الحقيقيين أو الافتراضيين أو حتى تعريض أنفسهم للشتم على المنصات. فنظرية «دوامة الصمت» تفترض في ما تفترض أن كل شخص يمتلك جهازاً «إحصائياً» وظيفته مراقبة الرأي العام حول قضية معينة. وعليه، فهؤلاء الطلاب يشغّلون هذا «الجهاز الإحصائي» فيخضعون لثقل التفاعل الاجتماعي، لأن معظم البشر يتجنّبون الأفعال التي تسيء إلى صورتهم وتجعلهم غير محبوبين ضمن محيطهم، وهم بالتأكيد غير مستعدين للعداء، وخصوصاً علنياً وأمام أعين كل الناس ولو كانوا أصدقاء افتراضيين. لذلك في سعيهم إلى ضمان إعجاب الآخرين أو على الأقل لحماية أنفسهم من حروب كلامية متوقعة، يؤيدون رأي الغالبية حولهم ويخفون آراءهم الحقيقية التي تستقر في أسفل الدوامة لحين إيجاد دعم اجتماعي جماعي. وهذا قد يشكّل دليلاً على إمكانية تطبيق هذه النظرية على مواقع التواصل الاجتماعي أيضاً وليس فقط على وسائل الإعلام التقليدي كما جرت العادة. على الأغلب هم يخافون ممّا سمّاه السيميائي الإيطالي الراحل أمبرتو إيكو «غزو البلهاء»، حين قال إن «أدوات مثل تويتر وفايسبوك تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ من دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع وكان يتم إسكاتهم فوراً. أما الآن فلهم الحق في الكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل!».
وهذا النوع من الصراعات الداخلية التي تولّدها طبيعة مواقع التواصل الاجتماعي، تُعيد إلى الذهن تعبير الكندي مارشال ماكلوهان بأنّنا نعيش في «عصر القلق لأن الثورة الإلكترونية الفورية الجديدة تجبر الفرد على الالتزام والمشاركة بعمق». فمواقع التواصل عزّزت واقع الإنسان «الهامستر» لمن يرغب أن يُعتبر ناشطاً عليها. هذا «الهامستر» الذي يستمر في الركض ليلحق بركب المشاركات على المنصات، لكنه لا يكاد ينجح، فكل حدث يفرض عليه المتابعة والمجاراة والتعليق، وبالتالي، طبيعة هذه الشبكات تحتاج إلى تفرغ. فلا استراحات في هذا العالم الافتراضي، وإلا لفظتك الخوارزميات خارج السباق. تحار إن كنت ستخصّص وقتك للحياة على هذه المنصات أم لتحيا حياتك الحقيقية. لكن يبدو أنّ كثيراً من الطلاب اختاروا الخيار الأول بوعي أو من دونه، فلا يكاد هذا الرفيق الصغير بحجم الكف يفارق أكفهم، وعيونهم متربصة بشاشته وأيديهم تتحسّس ارتجاجه وآذانهم تتوهّم رنينه حتى وهو صامت.
يعترف بعضهم بميلهم إلى طلب المساندة المعرفية من أدوات الذكاء الاصطناعي المجانية في معظم تجاربهم
ما نحياه هو أقرب إلى مشهد يمثل جيلاً كاملاً يرى الحدث عبر شاشته الأصغر كمصوّر، مقارنة بعجوز تقف جانباً تتأمل المشهد بهدوء وسعادة وتحرّر من دون هاتف. وقد ذُيّلت الصورة بجملة أن هذه المرأة هي الوحيدة التي تعيش اللحظة بينما يوثقها الآخرون من دون عيشها. هدفها أن تحيا وهدفهم التقاط صورة للمشاركة وربما حصد «اللايكات» و«الترندات» أو في أحسن الأحوال لتخزينها كذكرى لشعور لم يعيشوه أصلاً. لذا يحق لنا التساؤل إن كانت هذه المنصات في الحقيقة مواقع لا اجتماعية، كونها تستدرج المستخدم نحو نمط من العزلة عن مجتمعه الحقيقي. وهذا ما يشير إليه بعض الباحثين في معرض تعليقهم على الحتمية التكنولوجية بأن التطوّر التقني قد تحوّل في عصرنا الحالي من «التجميع» إلى «التفتيت».
وفي ظل متابعة حياة الآخرين ومراقبة تطوراتها، يعبّر بعض الطلاب عن الضغط النفسي الذي يعيشون أسفله، مع كمّ الاستعراضات المتكررة على هذه المواقع التي تدفع بالمستخدم إلى المقارنة اللاواعية بين ما يختبره الآخرون من سعادة ظاهرية على حساباتهم وبين ما يعيشه هو، إلى جانب انتشار مفاهيم غير دقيقة حول كيفية اكتساب الشهرة وتقييمها، ليغدو الهدف الأساسي لهم من دخول الإعلام هو كسب هذه الشهرة على المنصات ثم المال طردياً.
وبكل صدق، هذا الواقع لا يتعلق بالطلاب فقط، فالجميع يواجه صراعاً أوضح تجلياً، يجعلنا نتخبّط بين مجاراة الحداثة وما بعدها، وبين الركون إلى هدوء النمط الماضي بكتبه وصحفه الورقية وشهرته التقليدية وحنين له في بعض الأحيان، مع أنّ التكنولوجيا قدمت لنا الكثير من الخدمات التي اقتنصناها في ظل تسارعها.
تركيا – تكلفة زراعة الأسنان بالفم الكامل قد تفاجئك تمامًا
زراعة الاسنان في تركيا
بات هدفهم الأساسي من دخول الإعلام هو كسب هذه الشهرة على المنصات ثم المال طردياً
وهذه التأثيرات كلها موضوع النقاش تعدّ عميقة جداً رغم أن سطحية الإنترنت هي التي خلقتها. فكثيرون من المستخدمين يواجهون تغيّراً في الإسناد الثقافي وفي مرجعياتهم التقليدية، أي إنّ هناك انعداماً للأمن الثقافي الذي شخّصه عالم الاجتماع لوران بوفيه. وهنا يكمن الخطر الأساسي في مواجهة ما يسمّيها روا «ثقافة استهلاكية منتزعة من سياقها ومن تاريخها وقائمة على تقنيات إنتاج الصورة والصوت، وهي متاحة للجميع من دون تلقين سابق، عبر وسائل إنتاج وانتقال في المتناول اقتصادياً». أي إنّ جزءاً من خطورة المحتوى القائم على «الإخراج الدعائي» و«توحيد صورة السعادة ونمط المشاعر وتسليعها» هو مجانيته وسهولة الوصول إليه، على عكس الإنتاجات الثقافية التقليدية مثل المسرح والسينما والموسيقى والصحف التي كانت الأجيال السابقة تدفع في مقابل الحصول على ميزاتها.
لكن على الضفة الأخرى مما نختبره يومياً، تبرز إيجابية واحدة كبيرة في مواقع التواصل الاجتماعي بعد «طوفان الأقصى» في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. فقد منحت هذه المنصات الطلاب فرصة التعرّف إلى حقيقة العدو الإسرائيلي عن كثب، على اعتبار أن معظمهم لم يختبروا حروبه وهمجيته عن قرب. استطاع المحتوى المعمّم والمشارَك بشكل لحظوي إنعاش أذهانهم في ما خص القضية الفلسطينية، بعد غرقهم في أدوات التسلية الافتراضية في أولى سنوات وعيهم للعالم من حولهم، وبعدما سعى الإعلام العالمي إلى التعمية على ممارسات الاحتلال الإسرائيلي لعقود. حتى إنّ بعض الطلاب عمد في خضم هذه الإبادة الجماعية إلى مواجهة خوارزميات المواقع ومحاولة الاحتيال عليها هرباً من رقابة النظام الرقمي الذي تحوّل إلى ديكتاتور يكمم الأفواه، فيلغي الفيديوهات أو يعاقب المشارك على صفحاتها بمجرد التعبير عن رأيه ضد العدوان الإسرائيلي، وهذا جزء من تسييس العالم الرقمي وعسكرة الثقافة خلافاً لما تدّعيه قوى الأمر الواقع الأميركية في العالم الافتراضي.
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية