أحمد الدبش
أكّد العدوان الصهيوني على غزة، مجدداً، حقيقة الكيان الدموي، وعكس مدى العنف، والقسوة، والإرهاب، باعتبارها جزءاً لا يتجزّأ من البنية العقلية والفكرية، والاجتماعية، والنفسية، له، وكون تلك الصفات نسيجاً دينياً وثقافياً جعلت من العنف والإرهاب عقيدة باسم الدين. ضمن هذا الإطار، يأتي الكتاب الأوّل من ثلاثية «كيف يصبح الدِّين شرّاً»، بعنوان «اليهود والعنف» للمفكّر العربي منير العكش (المؤسسىة العربية للدراسات والنشر، ط 1، بيروت، 2024)
المفكّر العربي منير العكش، من أبرز الباحثين العرب في تتبّع ظاهرة العنف والإبادات الجماعية، وقد أصدر على مدار سنوات عدّة مؤلفات تستعرض تأثير نصوص «الكتاب المقدّس» في العالم الغربي، الأمر الذي تُرجم، في النهاية، إلى معنى سياسي، هو توافق القيم الأميركية والإسرائيلية.تكمن دوافع صاحب الكتاب في تقديم رؤية عميقة لأسباب العنف والمجازر التي يرتكبها العدوّ الصهيوني. فـ«ما يجري في غزة اليوم من مذابح لا تختلف عن مذابح الإسبان في العالم الجديد» (ص 19). إنّ نصوص «الكتاب المقدس»، هي، مشروع إبادة للآخر، ولا يمكن أن يتحقّق إلا على أنقاض هذا الآخر. فـ«النصوص «التوراتية» التي نسجت منها الذهنية اليهودية، وتمحورت حول فكرة إسرائيل «الأرض الموعودة» تضعنا أمام أيديولوجية إبادة جماعية لا تتحقق إلا بالعنف المميت» (ص 33).
هذا ما أشار إليه الأب مايكل بربر، في مؤلفه الموسوعي «الكتاب المقدس والاستعمار الاستيطاني: أميركا اللاتينية، جنوب أفريقيا، فلسطين» بالقول: «يتميز النقاش الجاري بين علماء «الكتاب» وعلماء اللاهوت عن موضوع استيطان بني إسرائيل المُتخيّل في كنعان في العهود القديمة، واستيطان اليهود فلسطين في الوقت الحاضر، في إغفاله سكان المنطقة قبل احتلالها. فالخطاب المتعلق بكل حالة يتناول موضوعات محددة مثل: «الأرض هبة من عند الرب» أو «الاستيلاء على الأرض واستملاكها إنجازاً لعهد يهوه [إله بني إسرائيل] التعاقدي مع بني إسرائيل». وفي الوقت نفسه، وكما لاحظ آرنولد توينبي فإن «اعتقاد بني إسرائيل المسجّل كتابياً بأن يهوه حضّهم على إبادة الكنعانيين» هو الذي أقرّ للإنكليز بالاستيلاء على أميركا الشمالية وإيرلندا وأستراليا، وأقرّ للهولنديين بالاستيلاء على جنوب أفريقيا، وللبروسيين بالاستيلاء على بولندا، وللصهاينة بالاستيلاء على فلسطين. إنّ انعدام الاكتراث (بالسكّان الأصليين) يعكس عمق تأصّل المركزية الأوروبية والحقد الاستعماري الذي يجسّد فعلاً التاريخ الرسمي كافّته، وكذلك فرع الدراسات الكتابية.
إنّ الأسفار التسعة والثلاثين في العهد القديم (كلّها، باستثناء سفري «راعوث» و«نشيد الأناشيد») مسكونة بهاجس الحرب والنهب، وبتمجيد دمار حضاراتنا الأولى وقتل شعوبها التي صنعت إنسانية إنسانيتنا، من وادي الرافدين إلى وادي النيل (ص 71)، هذه الأسفار كرّست المعنى الحقيقي للإبادة، واخترعت فكرة الأرض الموعودة [إسرائيل]، واستبدال شعب بشعب، وثقافة وتاريخ بثقافة وتاريخ. فقد كان ثيودور هرتزل، أبو الصهيونية، واضحاً في ذلك عندما سجَّل في كتابه «الأرض القديمة – الجديدة»: «عندما أرغب في استبدال بناية قديمة ببناية جديدة، فعليّ أن أهدم قبل أن أبني».
في كلّ الأسفار الخمسة الموصوفة بالتوراة «لا تعثر على كلمة أو معنى يفيد الحبّ أو المودّة أو الصداقة أو الإحسان أو المعروف أو التراحم أو العطف أو الشفقة» (ص 73). كان ربّ اليهود – كما تصوّره توراة العهد القديم – يغضب ويهتاج ويصدر أوامره بالقتل بدون رحمة. أو كما يصفه غاريث لويد جونز، رئيس كلية الدراسات اللاهوتية والدينية في جامعة ويلز، أنه «مسكون بكراهية الأجانب، ومتشبّع بالروح الحربية، وعنصري، وإقصائي، وهمجي». هذا الإله الدموي، قال عنه الأب مايكل بربر: «بإمكاني القول إنني أعرف شعباً واحداً فقط يحسّ أنّ بإمكانه الادعاء بأنه تسلّم أمراً إلهياً لإبادة كل السكان الذين انتصر عليهم؛ وهذا هو إسرئيل. وفي هذه الأيام، من النادر أن يمعن المسيحيون واليهود النظر في وحشية يهوه التي تفتقر إلى الرحمة التي لا تتكشف في النصوص المعادية فحسب، وإنما أيضاً في الأدب ذاته الذي يعدّونه مقدّساً. وفي الحقيقة، فإنهم مواظبون على قاعدة نسيان حتى وجود هذه المادة المُدينة».
كان يهوه إلههم الوطني، قائد حروبهم وحامل لواء غاراتهم وثاراتهم وزحفهم من صحاريهم إلى «الأرض الموعودة»؛ إلى كل ذبح وحرق وتدمير وإفناء وجودي منذور للربّ يسمّونه «التحريم» (HRM/ herem)، الذي أحاله الربّ نفسه إلى عمل مقدّس وسما به في توراة الكتاب المنسوب إليه إلى مقام العبادات (ص 67).
خيراً فعل العكش، حين نشر الكتاب الأول، «اليهود والعنف»، من ثلاثيّته، في ظلال حرب الإبادة الصهيونية في قطاع غزة، لعلّنا نصل إلى اقتناع فلسطيني عربي بأنّ جوهر المشروع الصهيوني هو استيطاني – اجتثاثي – إحلالي
يلفت الباحث العربي عصام سخنيني النظر في كتابه «الجريمة المقدسة: الإبادة الجماعية من أيديولوجيا «الكتاب العبري إلى المشروع الصهيوني»»، إلى تكرار تعبير «تحريم» أو ما يشتقّ منه في نصوص التوراة، وخاصّة لوروده بكثرة ملحوظة في جميع الحكايات التي قصّها «الكتاب» عن الحروب التي خاضها «بنو إسرائيل» ضدّ أعدائهم على اختلاف أجناسهم. فهي تعني «إبادة كل شيء حيّ في المدينة التي تتعرّض لتغلّب «بني إسرائيل» عليها أو القوم الذين ينتصر عليهم هؤلاء، ومنع أن يأخذ منها أو منهم أي غنيمة، بل يباد كل شيء فيها. وفي الأيديولوجيا «الكتابية»، فإن التحريم (حيرم) فعل لتنفيذ العدالة الإلهية في حق الخطأة وهم يستحقونه لعصيانهم. كما أنه فعل يستهدف اقتلاع جذور الدنس لئلّا يتلوّث بنو إسرائيل به». وينقل الباحث عن عالم الكتاب جيمس بار أن «التحريم كان شعيرة مقدسة. وأن كلمة التحريم كانت تعني نذراً بإفناء وتعبيراً حادّاً عن إفلاس أخلاقي. إنه طقس مقدّس يضحّون فيه بالبشر تماماً كما يضحّون بالحيوانات. أما من لم يلتزم بحرفية هذا التحريم فيُنزل به يهوه أشدّ العقاب» (ص 67). فالتحريم المقدّس، هو فكرة اغتصاب أرض الغير، ونهبها وتحريم ما فيها من بشر وغير بشر، واستبدال شعب بشعب، وثقافة وتاريخ بثقافة وتاريخ.
هذه الصورة الدموية التوراتية، وجدت صدى لها في خطاب المحتلّين البيض، باعتبارها ضرورة تاريخية اقتضتها عملية إحلال قوم أرقى في التطور الحضاري والروحي مكان قوم أدنى مرتبة يستحقون الإبادة لمصلحة الأرقى [راجع أعمال منير العكش: دولة فلسطينية للهنود الحمر، حق التضحية بالآخر: أميركا والإبادات الجماعية، فكرة أميركا، تلمود العم سام، أميركا والإبادات الثقافية، أميركا والإبادات الجنسية]. يقول العكش في «أميركا والإبادات الجنسية»: «لا يمكن فهم قضية فلسطين بمعزل عن المواجهة مع الغرب، الذي تجسِّده، اليوم، أميركا، وقُفّتها البريطانية. بدون فلسطين، والقدس، على وجه التحديد، لن يكون هناك غرب، وشرق. فباسم احتلال فلسطين، صنع البريطانيون أميركا، وصاغوا فكرة أميركا، وباسم هذه الاستعارة، خَلَقوا سكان قارتين كاملتين، وأبادوا ملايين البشر، في البقعة التي تُسمّى، اليوم، الولايات المتحدة الأميركية، كما فعلوا ذلك في أستراليا، ونيوزيلاندا، ومئات الجزر، التي استعمروها».
وفي مؤلّفي «فلسطين في العقل الأميركي (1492 – 1948)»، أصّلت لهذه الفكرة عند الحديث عن تاريخ المستعمرات الأميركية بالقول: «فقد كان خطاب المحتلين البيض يتألف من إسقاط قصص «الكتاب المقدس» على تجربتهم، من خلال الادعاء بأنهم يسيرون في طريق «شعب الله المختار»، ومن عالم الخيال «الكتابي»، استقوا إرثهم الدموي!».
يرفض العكش خرافة إرجاع البشر في جميع أنحاء العالم إلى نفر ثلاثة من أبناء نوح [سام ويافث وحام]، ويعتبرها «مصدراً لأخطر تأسيس ديني للعنصرية والاستبعاد والإبادة واغتصاب بلاد الآخرين»، حتى صار مفهوم «السامية» من «أخطر أسلحة التوحش والإرهاب وحق التضحية بالآخر» (ص 17).
حاول العكش، عبر صفحات الكتاب، تأكيد أنّ ديانة العبرانيين كانت ديانات رجال «مطلوسين بالرمال» (ص 38)، أي ديانة بدوية صحراوية. يتوقّف العكش قليلاً أمام النقاش حول جغرافية التوراة ليؤكد أنه «ليس هناك ما يثبت أو ينفي ولادة اليهودية في الجزيرة العربية» (ص 38). ويشير إلى أنّ العلّامة كمال الصليبي استلهم نظريته عن جغرافية التوراة من المؤرخ التوراتي وعالم اللغات توماس شيني، صاحب كتاب «خفايا التاريخ العبراني» المنشور عام 1913. ويضيف: «فقد تبرع الباحثان (الصليبي وشيني) للكتاب المقدس بنجدة مسعفة من جغرافية جزيرة العرب (شمالها وجنوبها)، وراحا يلويان عنق الألفاظ والأسماء والأحداث والبيئة الاجتماعية، ويتعسّفان في المقارنات اللغوية من أجل إثبات نظريتهما، متجاهلين بذلك كل المكتبة التاريخية والآثارية لحضاراتنا المشرقية تجاهلاً مريباً، وكأنها لا وجود لها، أو كأن القدر كنس سجلات التاريخ والآثار ورمى بها في هذا المستنقع الخرافي وحده» (ص 43). من الجدير بالانتباه، أن الأطروحات التي تَعتبر الجزيرة العربية هي المسرح الجغرافي والتاريخي لملوك بني إسرائيل ليست بجديدة؛ ففي عام 1907 بدأت أكاديميةُ فينيا بإصدارِ مؤلَّفِ المستشرقِ النمسوي ألويس موسيل، بعنوان «Arabia Petraea»، في أربعة أجزاء، والذي كتبهُ أثناءَ زيارتهِ لمواقعِ التاريخ التوراتي، أملاً بأن يَفهم التوراة من خلال الطبيعة التي وُلِدَت فيها، وأدرك في حينه، وقبل غيره، أن «سيناء التوراتية» ليست هي «سيناء الحالية»، وأن الآراء الشائعة حول موسى، وحول الديانة اليهودية، ليست صحيحة. بل لقد ذهبَ المستشرق ديفيد صوئيل مرغوليوث، في كتابه «العلاقات بين العرب وبني إسرائيل قبل ظهور الإسلام»، الذي صدر في عام 1924، إلى أن «الوطن الأصلي لبني إسرائيل لم يكن في شبه جزيرة سيناء؛ بل كان في بلاد اليمن التي خرجت منها أمم كثيرة من أقدم الأزمنة التاريخية».
وقد ألَّفَ المستشرقُ الألماني هوغو ونكلر رسالته المثيرة للجدل التي سمّاها «مصري وملوخا ومعين»؛ بيّن فيها رأيه أن «مصري» هي أرض عربية شمالية، وأن مصر المذكورة في التوراة هي في بلاد العرب، لا في أفريقيا. وأن عبارة هاكرهم مصريت (Hagar Ham-Misrith)، بمعنى هاجر المصرية، لا تعني هاجر من مصر المعروفة، بل من مصر العربية، أي من هذه المقاطعة التي نتحدّث عنها (معن مصرن) وأن القصص الواردة في التوراة عن مصر وعن فرعون، هي قصص تخصّ هذه المقاطعة العربية، وملكها العربي.
هذه النجدة المسعفة لروايات التوراة تفترض مسبقاً صحة «الكتاب المقدس»، وخطأ جغرافية الحدث، فـ«الكتاب المقدس»، لا يُوفِّر «مصدراً تاريخياً، ولا يعكس بالضرورة، حقيقة عن الماضي». و«صورة ماضي إسرائيل، كما وردت في معظم فصول الكتاب العبري، ليست إلا قصة خيالية، أي تلفيقاً للتاريخ». ثمّة حقيقة مهمة، تكمُن في أنّ قرناً من البحوث الأثريّة المكثَّفَة، لم يتمكّن من تقديم البُرهان على أنّ أحداث «الكتاب المقدّس»، وقعت سواء في فلسطين أو في خارجها.
وختاماً، خيراً فعل العَكش، حين نشر الكتاب الأول، «اليهود والعنف»، من ثلاثيته، في ظلال حرب الإبادة الصهيونية في قطاع غزة، لعلّنا نصل إلى اقتناع فلسطينيي عربي بأنّ جوهر المشروع الصهيوني هو استيطاني – اجتثاثي – إحلالي. فالصهيونية لم تكن تتوخّى، بخلاف الكولونيالية الكلاسيكية، الاستيلاء على وطن، ونهب موارده، والسيطرة على سكّانه، باستغلالهم كيَدٍ عاملة بسعر رخيص، بل كانت تتوخّى بالأحرى خلق مجتمع جديد في مكان مجتمع أصلاني قديم، استناداً إلى الأيديولوجيا الدينية [الكتاب المقدّس] لتكون مكوّناً أساسياً من مكوّناته الأيديولوجية. فما يشهده العالم في غزة اليوم هو عرضٌ طقسي حيّ تقدّمه الحكومة الصهيونية بالصوت والصورة لهذه الأيديولوجيا.
* مؤرّخ فلسطيني
(سيرياهوم نيوز 1-الاخبار)