قدم الأديب منذر يحيى عيسى رئيس فرع طرطوس لاتحاد الكتاب العرب محاضرة بعنوان “النفس الملحمي في شعر ريم البياتي الرمز والأسطورة ” سفر بهلول السومري نموذجاً، وذكر في البدء أن (سفر بهلول السومري) استدعاء مباشر للتاريخ، يقدم بشكل فوري رمزاً لشخصية أدبية من التاريخ، وكلمة /سفر/ جمعها أسفار، وهي الكتاب الكبير، وتطلقُ على أجزاءٍ من التوراة، وهي قليلة الاستخدام حالياً.
و/بهلول/ هو أبو وهب بهلول بن عمرو الصيرفي الهاشمي العباسي الكوفي، ولد بالكوفة عام 807 ميلادية – 190هجرية كان شاعراً حكيماً وكاملاً في فنون الحكم والمعارف والآداب في زمن الخليفة العباسي (هارون الرشيد) تظاهر بالجنون لكي يتخلص من متابعة الخلفاء العباسيين له بسبب ميلهِ الديني فتصرف تصرف المجانين والدراويش، و(سومر) حضارة أقوام قديمة معروفة في جنوب بلاد الرافدين.
وعن العنوان يذكر عيسى إنه جاء شاملاً لقضايا تاريخية وحضارية وفكرية وأدبية تم اسقاطها على الحالة الراهنة. وقد استحضرت الشاعرة شخصية بهلول الإشكالية ونسبته إلى أجداده السومريين مؤكدة غنى هذه الشخصية ودورها في نشر نور الحكمة والضياء، تقول :
“بهلول عاد من زمانهِ
محملاً بالغيم والسنابل
من نجمةٍ
كهوفها ضياءٌ
وفي تخومها
كخاتم العروسِ
يحيطُ قلبُ النبعِ بالجداول”
كما تؤكد نقاءَ منبع الحكمة والمعرفة وصفاءها عنده وقد رمزت لذلك بالخمرة المعتقة، وعلى الانفتاح على كافة الحضارات، وإباء تلك المنطقة ومواجهتها للأخطار، تقول:
“بهلول من مدينة جِرارها قديمة
وخمرها معتقٌ لا يفسدُ”
إلى أن تقول:
“بهلول من مدينة
أبوابها عصيَّة
لكنها لا توصدُ”
وهذا ما يظهرهُ التاريخ من انفتاح المنطقة على حضارة وفكر الشعوب المجاورة من خلال الترجمة وفنون الأدب المختلفة، وبقيت تلك الحضارة صامدة عبر التاريخ رغم ما تعرضت له من هجمات.
(بهلول) هذا وقد جعلتهُ الشاعرة يلعب دور الحاوي الحامل في جرابه تجارب كثيرة وحكماً ورؤى، رأت فيه مثالاً لـ (ديوجين) ذلك الفيلسوف اليوناني الذي حمل مصباحهُ، ومشى في دروب أثينا، وفي شوارعها في (عزّ طلعة الشّمس) فأثار انتباه الناس أجمعين، وأثار تساؤلاتهم، فكانت إجابته قاطعة الدلالة: أنا أحمل مصباحي باحثاً عن “الحقيقة” فالحقيقة تاهت وهأنذا أبحثُ عنها ومشتقاتها حيث الحق والعدل المنشود.
تقول الشاعرة ريم البياتي:
“بهلول يا (ديوجين)
أتحملُ المصباحُ، والنهارُ
يفيقُ ملء عين؟
فأشرقت في ثغره وضاءَةُ الإيمان
ودارَ في المكانِ والزمان
وترى الشاعرة أننا ونحن القادمون من التيه لظلال النخيل وهي رمز أصالتنا، وقد انكرتنا، وتاهت خطانا، وتبعثرت أحلامنا في السراب، ولكن هناك فكرة أو لمعة في ذهن عاشق للبلاد.. وباستخدام موفق للأسطورة تستدعي الشاعرة في قصيدتها (عشتار) سيدة الحبّ والحرب حضارة بلاد الرافدين، وقد جاءت للمساهمة في مراسم الخصب، كما استحضرت
(الراعي) الذي كان ينافس تموز في حب عشتار تقول:
“تفيق من سباتها عشتار
ويغزل الراعي لها
من أغنيات نايه
محابس النوّارْ
تجمعوا فأورق المكان
توشحت رداءها الأشجار
وكانت السهولُ بالحشائش النضار”.
وبيّن عيسى أنّ هذه القصيدة تؤكد سعة اطلاع الشاعرة يسرى رجب مصطفى باسمها المستعار (ريم البياتي).. وبما تحمل من أفكار تصب في النهاية في القضايا الإنسانية، وبالتالي فإنّ محور ما تكتب هو الإنسان، وهذا ما يعطي لشعرها هذا البعد الاجتماعي الواضح، وبالتالي فإنه شعر منحاز للقضايا الإنسانية.
ولفت إلى أن ما يميز هذه القصيدة أيضاً هو استخدام الرمز والأسطورة منذ العنوان وهي بذلك ككل شعراء الحداثة أخذت منحىً تجريبياً في بناء القصيدة، وهذا ما يساهم في رفد القصيدة بجماليات خاصة منبعها الأسطورة التي تذخر بقيم جمالية ودلالية.. حيث إن الأسطورة وهي تراث حضاري سابق وشيء من تاريخ هذه الحضارات ينقل إلينا تجارب هذه الشعوب، ورؤيتها للحياة، والخبرات التي تكدست كما تنقل المعتقدات والأحلام، لتشكل منابع فكر وإلهام للآتين.
فقد حشدت رموزاً وأساطير، والتي أعطت للقصيدة جمالية خاصة وحملت قيماً معرفية عديدة /عشتار – تموز/ الراعي – اكتيون/ وهي أساطير سومرية وكذلك / ديوجين فيلسوف اليونان/ ومن أساطير اليونانيين / تنتالوس/ وذلك كلّه عبر شخصية إشكالية في العصر العباسي / بهلول/ وهو شاعر وحكيم وراءٍ.
إنّ ما قامت به الشاعرة من إعادة قراءة التراث الحضاري من منظور الواقع وبشكل إيحائي حيث تركت للقارئ حرية الرؤية، وتفسير ما ينطبع في خياله من الأفكار، وهي باستخدامها للرموز قد كثفت واختصرت آلاف الكلمات، و أوصلت ما تريد إيصاله للقارئ، وحققت بذلك ربطاً بين تجارب الماضي والحاضر من دون الخوض في تفسير هذه التجارب، والاكتفاء بما هدفت إليه هذه الحكاية الأسطورة.
جاءت هذه القصيدة برؤية جديدة مختلفة عن الشعر الكلاسيكي وذلك باعتمادها على التفعيلة والبنية الشكلية الجديدة والإيقاع المختلف، والتنويع في القوافي ونظام السطر والمقطع الشعري.
حيث جاءت بإيقاع متصاعد يتناسب مع النفس الملحمي للقصيدة، وذلك كلْهُ بلغة الحياة اليومية الخالية من التعقيد والغموض الذي يَسِمُ الشعر الحديث في كثير من الأحيان مع ذلك كانت اللغة راقية وهي حالة لغة الشعر.
سيرياهوم نيوز 2_تشرين