سعيد محمد
بعد خمسة أسابيع على اندلاع الاحتجاجات الطالبية في بنغلادش، وحين بدا أن الأمور بدأت تخرج عن سيطرة الجيش والأجهزة الأمنية وميليشيات «حزب رابطة عوامي» الحاكم، اندفعت القوى النافذة في النظام إلى اتخاذ قرار استثنائي بتنحية رئيسة الوزراء، الشيخة حسينة، من منصبها، ففُرضت عليها الاستقالة، ووُضعت على متن طائرة عسكرية أقلّتها إلى قاعدة جوية عسكرية بالقرب من دلهي في الهند المجاورة. وحكمت الشيخة حسينة – ابنة مجتبى الرحمن، الرئيس المؤسّس للجمهورية بعد حرب الاستقلال عن باكستان في عام 1971 – البلاد لعقدَين متتاليَين لمصلحة طبقة متنفّذة مرتبطة بالجيش والمؤسسة الأمنية، ودائماً على حساب الأكثرية الأقل حظّاً.وفضلاً عن نيودلهي، عاصمة الجارة التي تحيط ببنغلادش من الشمال والشرق والغرب، تراقب عواصم كثيرة التطوّرات في دكا بعين القلق، إذ إن الأوضاع في الجمهورية التي يتجاوز عدد سكانها 170 مليوناً يقبع أغلبهم تحت خط الفقر، تتشابه بنيوياً وموضوعياً مع دول أخرى – من مثل باكستان، ونيجيريا، ومصر -، تعيش أنظمتها أزمات متفاقمة بسبب الفساد الممنهج والتفاوت الطبقي والانفجار السكاني. وخرجت الاحتجاجات الطالبية بدايةً من تموز الماضي، على خلفية حكم لمحكمة ابتدائية قرّرت إعادة العمل بنظام يخصّص أكثر من نصف وظائف القطاع العام لأحفاد قدامى المحاربين في حرب الاستقلال، والذين يعبّر عنهم «حزب رابطة عوامي». وانتشرت التظاهرات من جامعة دكا إلى معظم جامعات البلاد، حيث قوبلت بعنف شديد من قِبَل العسكر والقوات شبه النظامية، إضافة إلى ميليشيات «حزب عوامي»، فسقط فيها عدة مئات من القتلى، وآلاف الجرحى، فضلاً عن اعتقال عشرات الآلاف، وذلك قبل أن تتدخّل القوى النافذة في النظام وتقدّم تنازلاً استثنائياً عبر «المحكمة العليا» التي ألغت قرار المحكمة الابتدائية، وأعادت اعتماد الكفاءة كوسيلة لتوزيع النسبة الساحقة من المناصب الحكومية المستحدثة.
لكنّ الجيش والقوى الأمنية وميليشيات «عوامي» استغلوا تراجع حدّة الاحتجاجات بعد قرار «العليا» لشنّ حملة قمع قاسية استهدفت قادة الاحتجاجات الطالبية والمشاركين فيها. ووفق مراقبين، فإن هؤلاء لم يتورّعوا عن القتل المجاني، وإطلاق الرصاص بكثافة على المتظاهرين العُزّل؛ إذ أفادت صحف محلية بنقل آلاف الطلاب المصابين برصاص القناصة الحيّ والمطاطي في مناطق الرأس والعيون إلى المستشفيات، فضلاً عن اعتقال وإخفاء عشرات الآلاف. وقد تسبّبت هذه الحملة بغضب جماهيري، ما أدى إلى خروج الملايين لمساندة الطلبة الذين تجاوزوا سريعاً شعاراتهم المطلبية، إلى المناداة بإسقاط النظام، ورمزه الشيخة حسينة. واندفع عدة مئات منهم، الإثنين، لاقتحام مقرّ إقامتها الرسمي في وسط دكا، في مشاهد ذكّرت بإطاحة السريلانكيين الرئيس جوتابايا راجاباكسا، في عام 2022. ونقلت وكالات الأنباء صوراً للمتظاهرين من داخل القصر بينما هم يرقصون، ويلتقطون الصور التذكارية، ويتقاسمون ما عثروا عليه في المقرّ من أدوات منزلية فاخرة. كذلك، أضرم المتظاهرون النار في مبان حكومية، من بينها مقرّ إقامة وزير الداخلية، ونصب تذكاري لوالد الشيخة حسينة، فيما توقّفت الملاحة في مطار دكا لعدة ساعات بأمر من الجيش.
تراقب عواصم كثيرة التطوّرات في دكا بقلق
وفي محاولة لتدارك الأمور قبل انفلاتها كلياً، أعلن قائد الجيش البنغلادشي، واكر الزمان، في خطاب متلفز، الإثنين، أن الشيخة حسينة استقالت بالفعل، وأن الجيش سيجري محادثات مع الرئيس وممثّلي الأحزاب السياسية لتشكيل حكومة مؤقتة، متعهّداً للطلبة بأن جميع عمليات القتل وحالات الظلم سيتم التحقيق فيها، مناشداً إيّاهم ضرورة «المحافظة على الثقة في الجيش الذي سيعيد السلام إلى البلاد»، وفق تعبيره. لكن مشاعر الغبطة بسقوط الشيخة حسينة لم تكتمل، بحكم أن النظام الذي استندت إليه خلال العقود الماضية، باق من دون تغيير، فيما يأمل كثيرون في أن يكون سقف الطلبة مرتفعاً هذه المرّة. وبحسب الأنباء الواردة من دكا، فإن الاحتجاجات استمرّت في العاصمة ومدن أخرى بعد الإعلان عن استقالة الشيخة، فيما تنتشر قوات الجيش في الشوارع بكثافة، ويُفرض حظر للتجوال ليلاً، في ظلّ تعطّل خدمات الإنترنت والهواتف المحمولة.
وتُعدّ بنغلادش واحدة من أفقر دول العالم، وإنْ كانت تُعدّ ثاني أكبر مصدّر للملابس الجاهزة في العالم بفضل شبكة من المصانع التي تتبع عدداً من أشهر الماركات التجارية الغربية. على أن هذا المنجز اعتمد بشكل رئيسي على إبقاء تكاليف إنتاج الشركات المعولمة عند أدنى الدرجات، من خلال الأجور الزهيدة التي تُدفع للعمال، والتي قد لا تصل إلى عُشر ما يمكن أن تضطرّ لدفعه لو أبقت تلك المصانع في الغرب. ومع ذلك، فإن فرص العمل في البلاد أضحت نادرة، فيما تفاقمت الأوضاع سوءاً في أجواء الكساد العالمي بعد جائحة «كوفيد 19»، والحرب الاقتصادية الغربية ضدّ روسيا، إذ تراجعت مبيعات الملابس حول العالم، كما تضرّرت بشدّة التحويلات المالية من العمال في الخارج، وعانى السكان من تضخم حادّ وارتفاعات غير مسبوقة في تكاليف الغذاء والوقود، إلى جانب انقطاع الكهرباء؛ علماً أن التقديرات تشير إلى أن أكثر من 20 مليون شاب بنغلادشي عاطلون من العمل
سيرياهوم نيوز١_الاخبار