أسعد أبو خليل
مرّت وفاة مارتن إندك في الصحافة العربية مروراً سريعاً وذلك بسبب التغطية المستمرة لجرائم الإبادة الإسرائيلية في حرب غزة، ولأن الرجل تقاعد من العمل السياسي والديبلوماسي وهو ترك أيضاً آخر منصب له في «مؤسّسة بروكنز» في واشنطن. الرجل لم يعد مؤثراً في صنع السياسة الخارجية الأميركية كما كان، وهو، في السنوات الماضية، لم يعد مرتبطاً ارتباطاً مباشراً باللوبي الإسرائيلي في واشنطن—وكان في الماضي عموداً من أعمدته ومفتاحاً لمُمَوِّليه الكثر. مارتن إنديك شخصية مهمة في إطار تاريخ الصهيونية الأميركية وحتى في تاريخ العلاقات الأميركية الإسرائيلية. قد يكون إنديك من أبرز الشخصيات التي رسّخت العلاقة الأميركية مع الدولة العبرية. هو مسؤول أكثر من أي شخص آخر عن تدمير بنية المستعربين في داخل أجهزة الدولة في الحكومة الأميركية. لكن المفارقة أن اليمين الإسرائيلي اعتبره عدوّاً لإسرائيل في سنواته الأخيرة. قد يستغرب القراء العرب أن خلفية الرجل هذا، والذي وصل إلى أعلى سدة المسؤولية في صنع السياسة الأميركية نحو الشرق الأوسط برمته، لم تكن أميركية بل هو أسترالي الجنسية. وعندما اختاره بيل كلينتون كي يكون مستشاره في شؤون الأمن القومي اضطُر إلى تسريع عملية تجنيسه كي يدير شؤون الشرق الأوسط في إدارة كلينتون منذ بدايتها في 1992. الرجل الذي ولد في لندن، قبل هجرة عائلته إلى أستراليا، انشدَّ إلى الصهيونية مبكراً وانضمَّ إلى الجامعة العبرية كما خدمَ في كيبوتس. يقول إن اندلاع الحرب العربية الإسرائيلية في 1973 أثارَ عواطفه وشدّه أكثر إلى المشروع الصهيوني. هو كان يعدّ أطروحة الدكتوراه في العلوم السياسية في أستراليا، في «الجامعة الأسترالية الوطنيّة» ولكنّ عملية إتمامه للدكتوراه تعثّرت كثيراً. قال لي أستاذه، روبرت سبرينغبورغ، وهو مؤلف معروف عن شؤون الشرق الأوسط، إنه كان من الذين عارضوا نيل إنديك للدكتوراه لأن أطروحته لم تتمتع بالمعايير الأكاديمية. ولم يفزْ بها إلا بعد أخذ وردّ وصراعات تدخلت فيها السياسة وتدخل فيها اللوبي الصهيوني في أستراليا.
بدأ الرجل عمله في منظمة «أيباك» (اللوبي الإسرائيلي الرسمي) الذي يديرُ (أو يُشرفُ على) كل الأعمال والأنشطة والسياسة المتعلقة بإسرائيل في هذه البلاد. تولى إنديك إدارة شؤون الأبحاث في هذا اللوبي قبل أن يبادر إلى تأسيس «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى» في عام 85. وهذا التأسيس كان نقطة تحول في عمل الحركة الصهيونية في الساحة الأميركية. مارتن إنديك كان من أول الواعين لضرورة العمل على تغيير تأثير الجامعات الأميركية على الطلاب، والتأثير الأكاديمي على الصحافة. وهو الذي أسّس وحدة خاصة تعنى برصد كل التحركات والتعبيرات المعادية لإسرائيل والمناصرة لفلسطين في الجامعات الأميركية. وهو الذي تولى نشر كتابٍ خاص يحتوي على دليل للجامعات الأميركية بناء على النشاطات المتعاطفة مع فلسطين.
إندك كان فعّالاً جداً في جمع الأموال من الأثرياء الصهاينة واستطاعَ أن يحوّل بعض التبرعات السخية من مُمَوِّلي اللوبي الإسرائيلي الرسمي إلى الذراع الفكرية له، أي «معهد واشنطن» الذي تولّى هو تأسيسه وإدارته بنجاح كبيريْن. كان يستدعي صحافيّين وأكاديميّين ومسؤولين حاليّين وسابقين من إسرائيل كي يقضوا مدة زمالة في المعهد من أجل التأثير على الرأي العام الأميركي وعلى الوسط الأكاديمي. والتحدّي الكبير له كان في محاولة إضفاء صفة جامعة مُخادِعة على عمل المعهد.
كانت الصحافة لا تشير إلى المعهد إلا بعد وصفه باللصيق باللوبي الإسرائيلي أو كلام من هذا القبيل. لم يكن المعهد مقبولاً على المستوى المهني (حتى الإعلامي الأميركي) نظراً إلى الآراء التي كان يضخّها في الإعلام والأكاديميا الأميركيين. وهذا الانحياز دفع إنديك إلى السعي إلى جذب عرب إلى المعهد للظهور بمظهر المعتدِل. وقد روى تحسين بشير (الناطق باسم أنور السادات) لنا، أنا وإدوارد سعيد، ذات مرة في نيويورك، كيف أن مارتن إنديك ألحّ عليه بالانضمام إلى المعهد كزميل باحث وكيف أنه قال له إنه يمكن له كتابة المبلغ الذي يريده كمرتّب (رفض بشير العرض). وعند صعود «حزب الله»، ركّز المعهد على الظاهرة الجديدة وكان يعتمد على المؤرّخ الأميركي-الإسرائيلي، مارتن كريمر، لتحليل الحزب. لكن تحليلاته ومعلوماته وفرضيّاته كانت يشوبها كثير من الأخطاء كما أذكر. وكريمر كان من أوائل الذين درسوا محمد حسين فضل الله و«حزب الله» (وكان الأنثربولوجي الإسرائيلي، كلينتون بايلي، من أوائل الذين درسوا حركة «أمل»).
معهد واشنطن أتى لينافس المعاهد المتخصّصة في الشرق الأوسط في مدينة واشنطن. ولفتني في بداية عمل المعهد أن الندوات والمؤتمرات كانت تجري بغزارة لم تألفها العاصمة واشنطن: كان المعهد يستضيفُ زائراً من واشنطن أو من إسرائيل وأحياناً في ما بعد من الدول العربية أكثر من مرّة في الأسبوع. وعندما كبرَ نفوذ المعهد، أصبح الظهور في مؤتمراته وندواته من ضرورات الهيبة السياسيّة في العاصمة. وتعامل العرب آنذاك (في البداية) بكثير من الحذر مع هذا المعهد، وكان «معهد الشرق الأوسط» المنافس الأبرز للمعهد الصهيوني الجديد. كان واضحاً منذ البداية أن المعهد يتمتّع بتمويل هائل يفوق ما يرد على المؤسسات المعنية بالشرق الأوسط، والتي كان عماد تمويلها من السفارات العربية أو من أفراد مرتبطين بالأنظمة الخليجية. ولا ننسى أن دول الخليج كانت آنذاك، لأسباب لا علاقة لها بفلسطين، تحارب اللوبي الإسرائيلي الذي كان يعارض صفقات التسلّح لدول الخليج. الشركات النفطية العملاقة ومصانع الأسلحة دعمت العمل الخليجي السياسي في واشنطن من أجل الحفاظ على مصالح الربح من بيع السلاح. وحتى الدعاية من أجل فلسطين لم تتعارض مع مصالح دول الخليج آنذاك لأن سياساتها كانت (من أجل إسباغ الشرعية السياسية) تتصنّع دعم الحركة الوطنية الفلسطينية. التمويل الخليجي للمعاهد والمؤسّسات المعادية للوبي الإسرائيلي توقّفت عند اجتياح صدّام للكويت بعد أن تصالح اللوبي الإسرائيلي مع أنظمة الخليج (أو العكس).
المعهد الصهيوني الجديد شكّل بديلاً قوياً لـ«معهد الشرق الأوسط» التقليدي. كان «معهد الشرق الأوسط» يجتذب كل المستعربين المتقاعدين الذين كانوا يعوّضون عن صمتهم وخفرهم أثناء عملهم في السلك الديبلوماسي كي يسهموا في العمل الوطني ضد اللوبي الإسرائيلي. «معهد واشنطن» أصبح يجتذب ديبلوماسيين متقاعدين من غير طينة المستعربين. وليس من المبالغة القول إن مارتن إنديك هو الذي شنّ حرباً شعواء ضد المستعربين ونجح، بالاشتراك مع حلفائه الصهاينة في داخل الإدارات وخارجها، في استئصال ظاهرة المُستعربين من أجهزة الحكومة الأميركية.
أصبح إنديك في الثمانينيّات المستشار المُفترض لكل مرشّحي الحزب الديموقراطي للرئاسة. وجوده يضمن رعاية اللوبي الإسرائيلي للمرشح المذكور. ولو أن مرشّحاً ما (مثل مايكل دوكاكِس في 1988) تفوّه بكلمات عن الصراع العربي-الإسرائيلي تشذّ عن الخط المرسوم من «إيباك»، فإن إنديك يصحّح ويُشرف على كل بيانات المرشح عن إسرائيل وتصريحاته كما أنه يعدّ مواقف المرشّح ويصيغها كي تكون متطابقة مع مواقف اللوبي الإسرائيلي. في هذا السياق، أصبح مستشاراً لبيل كلينتون المرشح في 1992 واصطفاه الأخير وعيّنه في مجلس الأمن القومي ليدير شؤون الشرق الأوسط. لكنه استطاع بسرعة أن يقود كلّ عمليّة صناعة السياسة الأميركيّة نحو الشرق الأوسط. هو الذي يُقرّر ما الذي يخدم مصلحة إسرائيل وما الذي يضرّ بمصلحة إسرائيل. وأصبح المسؤول عن مفاوضات «مسيرة السلام»، دنيس روس، رديفاً جمهوريّاً له في داخل الإدارة، وخوّله إنديك الاستمرار في المنصب حتى في الإدارات الديموقراطيّة.
يومها، كان تعيين إنديك مثار اعتراض كبير واستفظاع عند العرب الأميركيّين وعند خبراء الشرق الأوسط والديبلوماسيّين المتقاعدين المعنيّين بصدّ نفوذ اللوبي الإسرائيلي. يومها، فاجأ جيمس زغبي الإجماع العربي ضد إنديك وصرّح أن العرب يمكن أن يقبلوا تعيينه. كان زغبي (وهو كان آنذاك من قادة العمل العربي المنُظم هنا، قد انضم إلى اللجنة العربيّة الأميركيّة لمكافحة التمييز التي أسّسها جيمس أبو رزق) قد بدأ يقترب من حكومة الإمارات وهذا فسّر مهادنته للصهاينة هنا واقترابه من المؤسّسة الحاكمة في الحزب الديموقراطي. رئيسة اللجنة العربيّة الأميركيّة لمكافحة التمييز، اللبنانيّة الرائعة هالة سلام مقصود، اعترضت على مواقف زغبي ورفضتها علناً. ودعا زغبي عدداً من العرب الأميركيّين إلى تطرية موقفهم ولكن هالة سلام وأنا رفضنا دعوته. كافأ إنديك زغبي على موقفه بأن عيّن ابنه في منصب متدرّب في وزارة الخارجيّة.
تعيين إنديك سفيراً لدى إسرائيل سجّل سابقة في أميركا بسبب ديانة الرجل اليهوديّة (أمّا جنسيّته الإسرائيليّة، فتناستها الحكومة بسرعة لأن الصهيونية طريق سريع للهوية الأميركيّة على المستوى الرسمي): كانت الحكومات الأميركيّة تعتبر أنه لا يجوز من أجل التوازن إرسال سفير يهودي إلى إسرائيل، كما أن وسائل الإعلام الكبرى كانت تتجنّب إرسال مراسلين يهوداً إلى الدول العربيّة لتغطية المنطقة. في سنوات خدمته في إسرائيل، كان الرجل نافذاً في العاصمتين: واشنطن وتل أبيب. وكان يقرب وجهات نظر «الليكود» و«العمل» كي يبلورا صيغة تكون مقبولة من المفاوضين العرب. إنديك فعل ما خرّبه نتنياهو في ما بعد (وهذا سبب نقمة الأوّل على الأخير): هو حرصَ على الحفاظ على إجماع الحزبيْن على مصالح إسرائيل كما حثّ أحزاب إسرائيل على عدم التدخّل في الشؤون الداخليّة الأميركيّة وألا يصبح الخلاف الإسرائيلي الداخلي معكوساً في داخل الساحة الأميركيّة.
صعد إنديك في الإدارة وأصبح مساعداً لوزير الخارجيّة في شؤون الشرق الأوسط وأصبح الزعماء والسفراء العرب يطلبون رضاه. وأصبح إنديك ضيفاً مفضلاً في حفلات العشاء والكوكتيلات للسفراء العرب في واشنطن. بعد خروجه من الإدارة لم يعد إلى «معهد واشنطن» الذي أسّسه بل أسّس مركزاً موَّله حاييم صابان في «مؤسّسة بروكنز» (وصابان إسرائيلي-أميركي ومن أكبر مموِّلي الحزب الديموقراطي وهو الذي قاد حملة مواجهة التعاطف مع فلسطين في الحزب الديموقراطي منذ «طوفان الأقصى»، وكان قد عرض شراء محطة «الجزيرة» عندما كانت مثار اعتراض من إسرائيل). «مركز صابان» كان أكثر التصاقاً بالحزب الديموقراطي وجلب إنديك أموالاً قطريّة أيضاً وفتح مركزاً فرعياً للمركز الرئيسي في الدوحة.
افترق إنديك عن نتنياهو في سنواته الأخيرة ولم يفترق عن إسرائيل. وحاول التقرّب من عرب معادين لإسرائيل (حاول مثلاً جرّي إلى محادثات على «تويتر») وسرّب معلومات ضد إسرائيل إلى الصحافة الإسرائيليّة (منها تحميله لإسرائيل مسؤوليّة فشل كل مسار المفاوضات العربيّة-الإسرائيليّة بسبب بناء المستوطنات). وهو شارك قبل سنة في مظاهرات ضد نتنياهو في تل أبيب. هو لم ينبذ الصهيونيّة، ولكن نسق نتنياهو من الصهيونية لم يرق له لأنه وجده ضد مصلحة إسرائيل وضد مصلحة أميركا. البعض في إسرائيل اتهموه بالانحياز ضد إسرائيل بسبب المال القطري الذي جلبه إلى مؤسّسة «بروكنز». خلاف إنديك مع نتنياهو هو انعكاس لأزمة عميقة في داخل الصهيونية، وداخل المجتمع الإسرائيلي.
* كاتب عربي – حسابه على «اكس» asadabukhalil@
سيرياهوم نيوز١_الأخبار