بقلم د. حسن أحمد حسن
من غير المعقول أن يكون خطاب وزير الدفاع التركي الحالي متناقضاً مع خطاب معلمه أردوغان، وعندما يضع يشار غولر شروطاً لا يقبلها المنطق ولا القانون الدولي، ولا كل ما يمت للعلاقات بين الدول المتجاورة بصلة، فهذا يعني أن وراء الأكمة ما وراءها، وفي الوقت نفسه يبرهن على صوابية النهج السوري، والتريث المُعَقْلَن مع دعوات أردوغان المتكررة لعودة العلاقات مع دمشق واستذكار أيام الود والتواصل المثمر الذي وصل بتركيا إلى ذروة الازدهار والنمو الاقتصادي غير المسبوق، وكأن كل ما حدث على امتداد ثلاثة عشر عاماً من الحرب الممنهجة ضد الدولة السورية، والكوارث التي تنبعث منها رائحة الأخونة الكريهة يمكن طمرها تحت العباءة العثمانية التي التحف بها أردوغان، وحاول الخروج إلى العلن بعد أن أطل بزي السلطان العثماني من كنيسة آيا صوفيا والاحتفال بتحويلها إلى مسجد، لا محبة بالإسلام، ولا لحاجة موضوعية، بل لإيصال رسالة إلى دول الجوار في الشمال والجنوب والغرب والشرق مفادها: إن ما عجز عنه الإخوان المسلمون في مصر قابل للنجاح في تركيا، وأن فشل حملة الفكر التكفيري الإخونجي الذي حمل بذرته حسن البنا في مصر، وانتقلت إلى الخارج لا يعني غض البصر عن أهمية تلك المدرسة التي يرتكز عليها أردوغان حالماً بمحاولة إعادة ضخ الدماء إلى أوردة العثمانية التي نبت الربيع على دمنتها، وأكل الزمان عليها وشرب، وكأن أردوغان أراد أن يقول: إن الإسلام السياسي الإخونجي تيار يصلح للعصرنة المطلوبة أطلسياً، حيث تفوح رائحة الدعارة المعتمدة سياسياً واجتماعياً، وهذا ما يتناقض وقناعات الكثيرين في الداخل التركي ذاته الذي قال كلمته في الانتخابات الأخيرة، ولم يفلح حزب الإخوان الجديد بربطة عنق “العدالة والتنمية” من الفوز حتى في الحي الذي يقطنه أردوغان.
صحيح إن الرئيس التركي استطاع امتطاء صهوة الانقلاب الفاشل عام 2016 وتفنن في استكمال ما بدأه للتخلص مما تبقى لتركيا العلمانية التي أرسى أسسها كمال أتاتورك على أنقاض السلطنة العثمانية بعد لفظ أنفاسها الأخيرة في الحرب العالمية الأولى، ونجح بذلك في أن يحكم قبضته على الدولة التركية، وأن يثبت قدرة استثنائية في التمترس بالدور الوظيفي لتركيا كرأس حربة للناتو، بغض النظر عن التذبذب المتكرر ومحاولات المشاغبة المفضوحة أكثر من مرة بالعزف على وتر العلاقات التركية ــ الروسية حيناً والتركية ــ الإيرانية حيناً آخر، وكل ذلك ضمن محددات الهوية الإخوانية التي تجيد الرقص بين الحفر، والظهور بحالة التمسكن عندما يقتضي الأمر، والتفرعن والعربدة في محطة أخرى، وهذا ديدن السياسة التركية بنزعتها الأردوغانية التي أخفقت في خلع عباءة العثمانية الجديدة المرفوضة من الجميع.
من حق المتابع العادي أن يتساءل عن فتور وهج اندفاعة أردوغان وتلهفه لما أسماه” تطبيع العلاقات مع سورية” وهو مصطلح متناقض الدلالة، وما هي الرسائل التي تريد أنقرة إيصالها عبر تصريحات وزير دفاعها وحديثه عن شروط تركية مسبقة تتضمن إقرار دستور جديد وانتخابات، وبعد ذلك تكون تركيا جاهزة للتواصل مع من يصل إلى السلطة بعدها، ومثل هذا الكلام ينسف كل التصريحات السابقة لأردوغان، والتساؤل الموضوعي والمشروع هنا: ما علاقة يشار غولر أو غيره من المسؤولين الأتراك بكل ما له علاقة بالشأن الداخلي السوري؟ فالدستور والانتخابات برلمانية كانت أم رئاسية موضوع سوري داخلي صرف لا يحق لأية جهة كانت الحديث عنه من قريب أو بعيد، والشعب السوري قال كلمته ويقولها بوضوح في جميع المحطات الدستورية الخاصة بالشأن السوري.
النقطة الأخرى التي تثيرها تصريحات وزير الحرب العثماني تتعلق بادعاء الفضل التركي وأنه على السوريين شكر تركيا على تخليصها من الدواعش، في الوقت الذي يتذكر فيه الجميع أن التوغلات التركية في الشمال السوري لم تكن قتالاً بين داعش والجيش العثماني، بل عمليات استلام وتسليم بإشراف المايسترو الأمريكي الذي يقود تركيا وداعش وقسد وبقية المكونات الإرهابية التي عملت وما تزال لنحر الدولة السورية، وهي ما تزال تعيد محاولاتها لأنها سيدها الصهيو ــ أمريكي لا يريد الاستقرار للمنطقة، وأولئك جميعاً أدوات تنفيذية وأصحاب أدوار وظيفية لا يستطيع أي منهم اللعب خارج المدى الذي يُحَدَّد له مسبقاً من قبل أسياده.
لن تغيّر تشدقات غولر وغيره أياً من معالم اللوحة المتشكلة، فالاكتفاء بالقول: أنه لا أطماع لتركيا في الأراضي السورية، متناقض مع الواقع الذي يقول: الأمر يتجاوز توصيف الأطماع بكثير، فالوجود التركي على الجغرافيا السورية هو احتلال عسكري مباشر، ولا يجوز توصيفه إلا كذلك، والأحاديث السابقة لأردوغان عن حلب والموصل وغيرهما خير شاهد على النزعة العثمانية المتأصلة في تفكير الزعامات التركية التي لم تستطع الخروج من رداء الأخونة البغيضة التي لا تحمل للمنطقة إلا الوجع والدم والخراب والتدمير، ولن يسمح أولياء الدم المهدور بأن تُغْتَصَب الحقيقة مرتين.
الفرق كبير بين الشروط التي يتحدث عنها الأتراك وبين المتطلبات الموضوعية لأي تموضع جديد، فالاحتلال والاستقرار نقيضان لا يجتمعان، وليست الدولة السورية التي تعمل لإبقاء التوتر وعدم الاستقرار في المنطقة، بل المحتل الذي يرفض إنهاء احتلاله، والتسليم بمنطق العلاقات الموضوعية بين الدول المتجاورة، وإذا كان الأمريكي يلعب ببيادقه كما يحلو له، فاللعبة مكشوفة، ولن يفيد الكومبارس المعتمد رفع الصوت تارة وخفوته تارة أخرى، وهنا تتساوى قسد الانفصالية مع تركيا العثمانية، فكلاهما يتلقى تعليماته من غرفة العمليات التي يشرف عليها ويقودها الأمريكي المقتنع بأن إحكام قبضته على القرار الإقليمي والدولي لم تعد كما كانت، ومعطيات الواقع القائم تؤكد أن بقاء الأمريكي في المنطقة ليس قدراً، ومهما طال الزمن سيخرج، وعندها سيترك أصحاب الأدوار الهامشية إلى معطيات الواقع الجديد، و لن يعود وقتذاك مجدياً التغني بأوهام سلطنة مدفونة، ولا التعلق بأحلام انفصالية سرعان ما تتبخر لحظة الاستيقاظ من الحلم ورؤية الواقع بأم العين.
(موقع سيرياهوم نيوز-1)