يمكن اعتبارها أول صورة “سيلفي” في التاريخ، تلك المنحوتة السومرية العائدة إلى الألف الثالث قبل الميلاد والتي تصور رجلاً وزوجته في منحوتة تذكارية صنعها فنان ذلك العصر ببراعة وحرفية نادراً ما نراها اليوم.. فالرجل يبدو محدقاً بالكاميرا “المفترضة” حيث الرائي يشعر وكأن العيون تتلاقى مع تلك الشخصية المجهولة التي لا نعرف عنها شيئاً سوى أن الفنان أراد أن يؤرخ اللحظة عبر هذه المنحوتة التي تظهر عليها علامات البراءة والبساطة وجماليات التعبير في الوجوه.. مشهد ينقلنا مباشرة للمقارنة مع صور “السيلفي” المعاصرة التي استهلكتها وسائل التواصل الاجتماعي وجعلتها متداولة بشكلٍ سهلٍ وسريع نتيجة التقدم التكنولوجي الكبير الذي حصل..
اليوم نعثر على كمّ هائل من الصور اليومية، بل إن بعض الأشخاص المدمنين على التقاط صورهم الخاصة، يتحفوننا يومياً بعدة لقطات لا جماليات فيها ولا تجديد أو دهشة تستحق الوقوف، كأن السهولة في الالتقاط خففت من أهمية التصوير أو لكأن هذه الحالة هي من مثالب التكنولوجيا التي جعلت تلك الميزة سهلة الاستخدام ومتاحة بشكل كبير للجميع من دون استثناء، على عكس العمل النحتي الذي يتطلب الكثير من الجهد والصبر والخبرة.
المنحوتة السومرية القديمة، تتفوّق على صور اليوم الملتقطة كيفما اتفق في أوقات الفراغ وبدافع الملل أو الغيرة الشخصية بين الأفراد الذين يتنافسون بلا مبرر على مواقع التواصل الاجتماعي.. وفي هذا الإطار لنا الحق أن نتساءل عن حجم التسطيح التي ساهمت التكنولوجيا في تعميمه نتيجة الاستسهال في استخدام التقنيات، وكم أساء هذا الأمر إلى الاعتناء بالجماليات والتفاصيل حيث لم يعد بالإمكان التمييز بين آلاف الصور الملتقطة يومياً من دون عناية أو تركيز على الخلفيات أو على “بورتريه” الوجه والجسد والموجودات الأخرى ضمن الكادر.. فمثلما وصلتنا أهم المنجزات في الحضارة الإنسانية عبر المنحوتات الصغيرة مثل الأحرف الأبجدية التي لا تتجاوز منحوتتها عدة سنتيمترات، وكذلك الأمر بالنسبة لتمثال عشتار مع حبيبها تموز وأيضاً حمورابي وهو يمسك بشرائعه العظيمة، فإن السوريين أثبتوا في أكثر من مكان على امتلاكهم خاصيّة العناية بالجمال وإظهار التفاصيل عبر أعمالهم الفنية، على عكس ما يتورط فيه الأحفاد اليوم عندما يلتقطون الصور العابرة غير الهامة التي نادراً ما تحمل اختلافاً أو تجديداً أو مواضيع عميقة.. فاليوم يتصور الإنسان كي يقول صباح الخير للأصدقاء، ثم يقوم بالتقاط زاوية لطاولة السفرة وغرفة الضيوف أو يقوم بتبديل صورة “البروفايل” كنوع من مقاومة الملل والبحث عن التجديد، حتى أصبحت الصورة عبارة عن “سكنر” متنقل يكتفي بالاستنساخ كأننا نشاهد آلافاً من الصور للشخص نفسه رغم أن الأفراد مختلفين!.
ترى أيّ كمٍّ من الدهشة تظهر في عيون هذا الرجل وهو يضع ذراعه على يد زوجته في هذه المنحوتة التي سميناها، اجتهاداً، أقدم “سيلفي” في التاريخ؟ هل كان على الحضارة الحديثة أن تفرّغ الأشياء من محتواها في صور اليوم، بهذا الشكل الذي استباح الذائقة وجعلها مألوفة ومقترفة بشكلٍ كبير يومياً بحيث غابت الدهشة وحضر الاعتياد وأصبح التفرد عملاً نادراً نحلم بأن نراه؟.
الطريف في هذه المنحوتة السومرية القديمة العائدة إلى الألف الثالث قبل الميلاد، أن الرجل يحدق في العدسة المفترضة مباشرة، أما المرأة، فهي ترنو إلى مكانٍ آخر، كأن شخصاً يشير إليها من خارج الكادر أو لكأنها حزينة أو متفاجئة لأمرٍ ما، وتلك التعبيرية الذكية في فضاء الوجهين تدل على براعة الفنان السوري السومري بأصابعه الماهرة من دون كاميرا “ديجيتال” ولا “زووم” ولا “فلاش” أو برنامج “فوتوشوب” يمكن أن ينقّي الصورة ويزيل الشوائب منها..
السؤال هنا يتعلق بحجم البساطة التي نحتاجها اليوم كي نقاوم فيها هذا الغزو الهائل من الاستهلاك الذي يجري يومياً ليس على صعيد الصورة وحسب، بل على كل مستوى
(سيرياهوم نيوز-وكالات-تشرين10-2-2021)