عبيدو باشا
لم أنضم إلى السر السيد إلا حين مضيت إلى السودان. لم يستحل أن أظن أن الاسم اسم صيفي أو اسم شتوي. لم أعرف السر قبلاً. وجدت الرجل النحيل، يقف على ثلاث من خطواته أو على أربع خطوات مع آخر. بدا من هؤلاء مَن لا يتعجلون الأمور. بيده حقيبة سامسونايت عريضة. بعد السلام والكلام، استقر الاسم في الشخصية، حين لم تستقر الشخصية بالاسم. سر سيد. لكن السر بلا أسرار. مهذب بعمق بئر عميق. لا يقاتل كي يجد مساحته في الأضواء الباهرة. هكذا توقفت عليه خلال ورشة أدرتها في العاصمة. انطلاقة صغيرة تعززت فيها المعرفة على نحو أفضى فيها الواحد إلى الآخر. أضحى الرجل صديقاً من دون كلام دائم. من دون مهاتفة دائمة. ثم إنّ الواحد لم يحذُ حذو الآخر. لكن روائح اللقاء بقيت عالقة بالجسد، بالروح، بالهواء الواحد. ثم إن اللقاءات في المهرجانات كشفت النقاب عن رجل لا يتباله. رجل يحضر بخفاء مدهش في الأروقة، ردهات الفنادق، صالات الندوات والعروض.
مضى على اللقاء الأول عشرة أعوام بالتخمين. آخر اللقاءات منذ أشهر في «مهرجان الهيئة العربية للمسرح» في كازابلانكا. إذاك، ظهر السر كأن في جعبته سراً. إذاك، تكلم كما لم يتكلم متكلم. تكلم بالانطلاق. تكلم بالعفوية وهو يلوّح بأمر ما، بقيت أتحزره. ثم، أرسل السر ما ينبغي أن ينكشف الأمر عليه.
الآن، أزيح الوقت عن سرّ السر. كتابة مقدمة لكتاب جديد يحتوي مجموعة من المقالات العربية والأفريقية والسودانية والأوروبية، تحقيقاً للتساوق. الجزء المهم يوشك أن يبدأ في القراءة الأولى. عنوان لا يكتفي بإزجاء الوقت. جهنم المسرح وفراديسه. 15 مقالاً، يحشد فيها ناسها مرة أخرى. تدبير وتذكير. لم تكتب المقالات في منعزل شخصي. لم تكتب في قطار سريع ولا في قطار الأنفاق. كتبت في الهواء الطلق، كبريد لا يموت. وهو يرى أن حياة المسرحي تتوقف على المسرح.
يرتدي السر في الكتابة النقدية ملابسه المعتادة. لا يرتدي ملابس خاصة، كما يفعل من يحبون ارتداء ملابس خاصة وهم يكتبون النقد، كأنهم يحررون وثائق التأمين على حياة من يكتبون عن عروضهم. الأهم لدى السر، انطلاقة المسرحي لا انطلاقة الناقد لأنه الرجل النحيل، يتوافر على قدرة التعايش مع المسرح وأصحابه، من دون أن يشعر بأن عليه أن يخفي شيئاً. من دون أن يشعر أنه ديان يقيم الحكم على المسرحي بالدخول إلى الجنة أو النار، لأن الرجل يتقدم في سجلات المسرحي لا في سجلاته. إنه بإرادته الحرة، يفكك عرض المسرحي من وجهة نظر المسرحي، لا من وجهة نظره. يكتب النقد كأن حياته تتوقف على ذلك. لا تعج المقالات الصغرى والكبرى، لأن المقالات أحجام عند السر السيد، لا تعج المقالات بموائد المصطلحات النادرة، ما لا يدركها سوى أصحابها. ثمة من لا يدركونها من مستعمليها. يظهر من الطبيعي عنده، أن يسأل بخفر إذا ما في مقدوره الانضمام إلى المسرحي عبر مقالاته. مقالات بعيدة من عروض الأزياء. مقالات مفاجئة من احتوائها على تقديمات واعتراضات جوهرية. تقديم واعتراض في الجوهر. لا يتوافر الأمر دوماً في مضي بعضهم، مِن من يريدون اشتمام العطور في مقالاتهم المسرحية إذ توجد كما لو أنها من وصايا الوجود. كتابة الرجل بلا ضجيج. كتابة دالول إلى دليل المسرح. ذلك أن توافر مقالات عن المسرح السوداني، وهي المفضلة لديّ لأنها تعلم ما يجدي الكشف عن هويته في تلك البقعة البعيدة من العالم العربي، ذلك أن توافر تلك المقالات يقود إلى الإقامة المؤقتة في مدن العروض. الخرطوم، أم درمان، ما يقود إلى مناطق أخرى كمثلث حلايب وسنار وعيذاب. إذاك، يظهر من الطبيعي الاقتراب من عرض تشادي بعنوان «الكرسي» (قدم في «مهرجان البقعة»)، حيث يحدق السر بالعرض بوصفه يعبّر عن جزء من العلاقة الصميمة بين التشاد والسودان عبر توافر القواسم الثقافية والاجتماعية المشتركة بين الجارين الجغرافيين، الضالعين في الشراكة.
لا تقدم المقالات كتقارير، أو كتقارير مصححة. كلام مستقر على المعرفة والتعريف. هذا من ميزات المقالات بقلم صاحبها الباحث عن اختفاء نفسه في التأليف. الباحث عما يتعين، لكي تقوم العروض على أحداثها، ثقافاتها، مدنها، رهاناتها، لا على ميز الصفاقة والتصلف والاستحواذ السوقي أو الهيمنة على العروض. كأنّ السر السيد إيمائي كتابة، يومئ من دون اهتمام بهزات أكتاف المسرحيين. هكذا، لا يموت العرض ولا المسرحي ولا الناقد. هكذا، يُضَحي الناقد بالصخب في مصلحة القول، الأقوال. إنه على استعداد دائم للتضحية وفقاً لإحصائيات تجريها في المقالات، لتجد فيها من وحي التواضع ما يوازي وحي الذكاء.
هذه كتابات ذكية، لأنها لا تقوم على اليقين المطلق، لأنها تقوم على الإحساس والنبض وأسماء صناع العروض. لا انفعال. هذا غريب، لأنّ الانفعال غاوي النقاد بالعادة، غوايتهم. إذاك، نقع في الحقائق، حقائق العروض، لا في تصورات النقد والناقد. وهذا أمر سيئ لدى من لا يعرفون النقد سوى قياد إلى نوم الناقد ملء عينيه ونوم المسرحي، وهو يفكر في أنه لن يثب إلى العمل مرة أخرى. لا تَحَلٍ بالغوامض. بالعكس، حين يقيم السرّ عمله كما يقيم التحري عمله، لا على سطح العمل، بل في نبشه بهدوء. الهدوء ميزة من ميزاته. ميزانه. لا على سطح العمل، في عمقه. من دون إطاحة شيء في مصلحة شيء آخر. بلغة لا تقدم الإثارة على العلوم، ولا توقع في إثارة الضجر. كلام مهني من مهني، بتملك لغة ورؤية لا ببرود. قراءة حياة العرض بهدف استمرار المسرح، لا دفع المسرحيين إلى التقاعد. وإذا ما أدت تحريات التحري إلى الكآبة، تؤدي تحريات السر السيد إلى رصد الأفعال الطيبة، كاملة أو ناقصة، ورصد الدهشات. رصد الهنات بالضرورة. ما تتوقعه موجود بالكلام على العروض السودانية. وهي عروض مفاجئة في النوع والكم لأنّ العربي يجد المسرح السوداني بلا حضور من عدم بروزه، حين يعتبره من الكماليات أو من الأعمال الشاقة في بلاد تقع في روتين الدأب خلف الخروج من الروح الزراعية، الروح الريفية، إلى السيطرة على نفسها. السيطرة على عقلها، لاستغلال مواردها ما يحوّل حوارها الداخلي مع الداخل والعالم إلى حوار استدراج إلى التطور. حيث لن يتوقع كثير من العرب أن ثمة ما يحظى بالقدرة في المسرح. أن ثمة مسرحاً ومسرحيين ومسرحيات، تقوم على الاقتصاد اللغوي والتكثيف الإشاري وعلى عدم التوقع بهدف إحداث أبلغ الأثر بأقل الوسائل تبذيراً. الكلام الأخير من السر، أخذه السر من من د. شكري عزيزي الماضي، كاستشهاد على تميز عرض من العروض على أرض المستحيل المسرحي.
لا يحيط السر مقالاته بإلقاء السر في وجه القراء. إنه يكشف مصادره، كما لو أنه يطيح بالأفكار الشريرة. أفكار قد يعزوها أحدهم لنفسه، حين لا يشير إلى صاحبها. كأن الإشارة مشكلة، لا تسمح بالإفلات. يكتب مقالة على هدى مقالة الدكتور حسن مصيلحي «التحريض السياسي في مسرح سعد الدين وهبة» (مسرحية «رغوة صابون»). كأنه حين يفعل، يأخذ القضايا إلى ما يتوقعه هو نفسه، لا ما يتوقعه الآخرون. وهو لا يستعمل «كأنّ» أبداً لأنه يجد فيها واحدة من أوهام الكتابة النقدية وتوهيماتها. عنده: قبل رفع الستارة. إشارة أولى بعد عنوان العرض، لأنّه يرى في كلام النقد اتجاهاً يكشف اتجاهات. لا تدفق شمبانيا. تواضع لا وضاعة. التواضع أرقى الصفات في كتابة النقد. السر متواضع، لأنه يعرف أنه يكتب قصة حياته في كتابة قصة المسرح. سوف يخون القارئ الاعتقاد لأنه لا يجد أن من المناسب أن تقدم عروض السودان في مقالات السر، بتدفق غير متوقع، إذ لن يظهر المسرح أرمل بعد. إذن، ثمة مهنة هناك. ولو أن الصعوبات تصل إلى حد المستحيل. لا مسرح يحقق المآرب. لا معهد يضغط لتحقيق الخروج من الارتجاف إلى التعريف. السر يُعَرِّفُ في مقالاته. يلوّن مقالاته بالمعرفة. يتيح للجميع مقالاته لأنه يكتب ببساطة لا بالتبسيط. ثم إنّه يمتلك منهاجاً بنيوياً في القراءة، يقرأ عبره في المسرحيات وآفاقها. هذا رجل يوظف قلمه في خدمة المسرح كمحقّق يجد جوانب في المسرح تفرض نفسها عليه، من دون أن يفرض قوامه عليها. ثمة لذة بالاكتشاف بما تقرأ. قول الحقيقة بفلاح، يتيح الفرصة لدفع التجربة إلى الأمام. هذا تميز، لا تراوده القصص الخيالية. مونودراما الراقصة، عنبر المجنونات، ضرة واحدة لا تكفي وتاجوج ونسوان بره الشبكة. هذه مسرحيات لعبتها حنان الجاك. يخابرك السر بذلك. لكنك تبقى عاجزاً أمام هذا الرصد، لأنك لا تعرف أنّ ثمة هذا العدد من العروض والأسماء. علي مهدي على حاله المعتاد. سيدٌ معروف. نعرفه ونحن نغمض الأعين. كما نعرف يوسف عيدابي. لكن المعرفة تراوح أمام هؤلاء، من يعكفون على المداومة في عالم المسرح من دون تخيير. إن الواحد منهم فرد نفسه. هذا صحيح. لكنّ ثمة آخرين يردون الدين للمسرح، لكي لا يغدو داراً متهدمة. عوض حسن الإمام وربيع طه ومحمد أحمد الشاعر وأبو بكر فيصل وياسر القاسم وعوضية مكي وعبدالله عبد السلام، عبدالسلام جلود، أميرة ادريس، طارق العلي. العشرات ممن يفكرون بما يحدثون ويحدثون بما يفكرون. السينوغرافيا موجودة مع أسماء، ولو أنها جزء من فلسفة العرض لا أداة مطلقة (أيمن حسين وعادل كرمة). ثمة مخرجون (ربيع يوسف، عبد عبد الكريم، عباس أحمد الزبير…). ما سوف أراه في المقالات جزء من دليل إلى من يجعلون المسرح حياً وأفضل. دليل إلى أن المسرح هذا لا يجلس في غرفه معتكفاً، بل يعكف على العمل بإمكاناته. ما يعرفها أكثر مما يعرفها أحد آخر.
كتاب يدخلنا إلى شوارع المسرح في السودان بعيداً من حربه الراهنة
لن أكترث للخلاف النظري على بعض المسرحيات العربية (كما لن أكترث لغياب التنقيط). كميت، مات العراقي ورحل النهار الإماراتي لأن ما أضاءه السر، بلغة نقدية لافتة، تجده محمولاً على كل شيءٍ مسرحي سوى على المحامل الشخصية. ما أضاءه يمضي بنا إلى النوافذ كي نتطلع إلى شوارع المسرح في السودان (بعيداً من حربه الراهنة)، لكي نرى في كل شيء لوناً خاصاً بقائمة طويلة تكافح لإبعاد النعاس عن المسرحيين، وتقدم ما سيراه الرجل الضرير حتى، ما سيراه معجزة السوداني في السودان. كوعه الخاص.
لن تقع حالات فقد الذاكرة بوجود من يرغب في تقديم المساعدة بصورة حقيقية. لغة مباشرة، لكنها حين تستيقظ من المباشرة تجدها في مواضع الكلام الإيحائي. لن يتعثر أمام هوية ولا منهج. لن يسلب حياة أحد لأنّه يجادل، برفق، بخفر. لأنه لا يصدر الأحكام وهو يرى حمل مسرحية بالتغريب وأخرى بالعلاقة الصارمة بالجسد ومواجهة الأمر على نحو صارم بالمنطق، لا بالمشاعر الشخصية. لا ضجيج في كلامه. لا كلام فضفاضاً. فضفضة لا تدفع إلى الندم، لأن لا شيء أهم من المسرح عند السر. هذا سر من أسراره. إنه يضع المسرح في المسار، ما يدفع إلى مساورة الشعور بضرورة تفضيل المسرحية السودانية على ما عداها، لأنّ أحداً لن يدرك ما يحدث في السودان، إلا عبر عمل كعمل السر السيد. عمل علمي، ولكنه يمس الفؤاد. السر يذرع الغرف كي يتفكر في العلامات في المسرحيات. إنه بذلك ينزع الملاءة المرمية على دفع عظيم المسرحيين إلا أن المسرح السوداني وقع في موته الأسود. مناداة السر السيد تخرجك من خيبة الأمل القديمة. تخرجك من الخذلان إلى عالم، لن يستنفد حماسته ولو ساوره الشعور بالحزن.
*مقدمة كتاب «جهنم المسرح وفراديسه» (دار نلسن) للناقد السر السيد
سيرياهوم نيوز١_الاخبار