يوسف فارس
لم تعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والتي اصطدمت بالجدار، تحتمل أيّ مواربة أو تغطية في ما يتعلق بهدف تهجير سكان شمال وادي غزة، وهو أحد أخطر الأهداف التي أُعدّت في وقت مبكر، ويقف وراء سياسة القصف الجوي العنيف والمجازر الجماعية والتدمير الممنهج لأحياء ومناطق بأكملها، ثم التجويع وتخريب كل سبل ومرافق الحياة الحيوية، من مثل المستشفيات والبلديات ومراكز الإيواء وشبكات المياه والصرف الصحي وآبار المياه الجوفية، من دون الإفصاح عن تلك الغاية بالنص وبالفم الملآن.والواقع أنه بعد عشرة أيام من بدء الحرب، ألقت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية على المؤسسات الدولية، بما فيها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين «الأونروا»، مهمة إفراغ شمال وادي غزة. وعملت تلك، بشكل غير رسمي، على تحقيق الغرض المذكور، عبر الإيعاز إلى موظفيها وعائلاتهم بالانتقال إلى جنوب القطاع. وبعد 20 يوماً من التهويل النفسي والحملات الجوية العنيفة، كان مئات الآلاف من الأهالي قد أخلوا شمال القطاع فعلاً، لكن ما لم يكن متوقعاً هو أن يتمسّك نحو 700 ألف منهم بالبقاء في منازلهم. حينئذ، بدأت الاستخبارات الإسرائيلية بإلقاء منشورات الإخلاء والبعث بالرسائل النصية وحتى الاتصالات الصوتية على هواتف الأهالي، ومطالبتهم عبرها باستغلال الفرصة والخروج عبر شارعَي الرشيد غرباً وصلاح الدين شرقاً إلى ما سمّوها «المناطق الآمنة» في جنوب القطاع.
وأمام هذا التهويل المشفوع بمشاهد المجازر الكبرى، بدأ من قرّر البقاء، حتى وإن كلفه الأمر حياته، في تشكيل موجات نزوح داخلي، حيث يُخلي الأهالي المنطقة التي تتعرّض للقصف المستمرّ أو التوغّل البري، إلى مناطق أكثر أماناً داخل الحيّز الجغرافي نفسه لشمال وادي غزة، ثم يعودون إلى منازلهم أو ما تبقّى منها، حينما ينتقل الجهد العسكري إلى منطقة أخرى. وعلى هذا النحو، أمضى الأهالي الذين تناقص عددهم إلى 500 ألف، خمسة أشهر من الحرب التي استهدفت شمال الوادي حصراً، قبل أن يتوزّع الثقل العسكري بين شمال القطاع وجنوبه. وتخلّلت تلك الفترة ثلاثة أشهر متواصلة من المجاعة، أكل الأهالي فيها أوراق الشجر وعلف الدواب والدواجن، ولا يزالون حتى الآن، يخضعون لتمييز في نوعية المساعدات والبضائع التي تصل إلى الجنوب دون الشمال، إذ يُحرمون من كل أصناف الأغذية الصحية، مثل الخضر والفواكه وجميع أنواع اللحوم، فيما يُسمح بدخول كميات محدودة من المعلّبات الرديئة النوعية إليهم.
الجديد في هذا الصدد، هو ما كشفته صحيفة «يديعوت أحرونوت»، أمس، في وثيقة أعدّها قادة عسكريون سابقون في جيش الاحتياط، أبرزهم اللواء غيورا آيلاند، وهو الرئيس السابق لشعبة العمليات الإسرائيلية، حملت عنوان «خطة الأبطال»، وتتضمّن «الخلطة السرية» التي يمكن من خلالها إنهاء الحرب، وتشمل إرغام 300 ألف متبقّين في شمال وادي غزة على الإخلاء إلى جنوب القطاع ووسطه، من خلال إعطائهم مهلة لمدة أسبوع، ثم فرض حصار مستدام يمنع بموجبه دخول أيّ نوع من الطعام والوقود والمستلزمات الطبية إلى تلك المنطقة، وذلك لمحاصرة 5000 مسلح وفق الأرقام التي أوردتها الوثيقة، ووضعهم أمام خيارَي الاستسلام أو الموت. ويعتقد آيلاند، ومن خلفه ضباط وقادة الاحتياط المتقاعدون، أنه كان من المفترض تطبيق هذه «الخطة الخلّاقة» منذ أشهر، لأن استمرار سيطرة «حماس» على المساعدات سيحول دون استسلامها.
وقُدّمت تلك الوثيقة في وقت سابق إلى كابينت الحرب ولم يجرِ تطبيقها، وهي واحد من عشرات المقترحات التي طُرحت وتُطرح، ويظنّ أصحابها أن بوسع خططهم إخراج «الزير من البير»، فيها تثبت كل واحدة منها قدراً واسعاً من الانفصال عن الواقع، الذي أظهر خلال أشهر الحرب ما يلي:
– من تبقّوا في شمال القطاع، رفضوا خلال أشدّ مراحل القصف الجوي المتزامن مع التوغّل البري، وحينما كانت معظم مناطق الجنوب أكثر أمناً وأقل تعرّضاً للقصف، الخروج من منازلهم، وكان حينها الطريق الذي يصل الشمال بالجنوب مفتوحاً. والآن، لن يقبلوا بالخروج تحت أيّ ظرف ضاغط، بعدما انعكست الحال، وصارت المناطق الجنوبية أكثر تعرّضاً للقصف والنزوح من تلك الشمالية.
– صنع الاحتلال في جنوب القطاع ووسطه أسوأ واقع إنساني يشهده العالم في الـ 100 عام الأخيرة، حيث يبيت أكثر من مليون إنسان في خيام، وسط ارتفاع درجات الحرارة، فيما تحاصرهم الدبابات من كل اتجاه، وتجبرهم على النزوح من خيامهم عدّة مرات خلال كل شهر. وعلى رغم أن الحال في الشمال ليست أفضل بكثير من الجنوب، لكن الحياة في مراكز الإيواء وتحت ما تبقّى من المنازل المدمرة، تبقى أفضل بكثير من حياة العراء.
– يتحرّق الأهالي في جنوب القطاع ووسطه للعودة إلى الشمال، وقدّم هؤلاء روايات عن تجربة حياة أضحى فيها الموت أهون وأقلّ إيلاماً من حياة النزوح. وأمام هذه القناعة الجماعية، فإن فكرة إلزام أهالي الشمال بالخروج تحت أيّ عوامل ضغط، تبدو فارغة.
وإلى جانب ما تقدّم، تتضمّن «خطة الأبطال»، فجوة معلوماتية كبيرة عن حقيقة الحال في شمال القطاع، وتنتهج تبسيط الواقع الإحصائي للإغراء بتطبيقها، إذ إن أعداد المقاومين مغايرة تماماً لما هو مطروح، كما أن أعداد الأهالي الصامدين تتجاوز ضعفَي العدد المذكور. والأهم هنا، أن نشر الخطة السرية إلى العلن يعني احتراقها واستحالة تطبيقها، وخصوصاً في وقت يعارض فيه جيش الاحتلال القيام بعمليات برية كبيرة من الممكن أن تتسبّب بمقتل المزيد من الأسرى الإسرائيليين.
سيرياهوم نيوز١_الأخبار