الرئيسية » ثقافة وفن » جورج سالم… الموت عالم واسع

جورج سالم… الموت عالم واسع

ساري موسى

يسجِّل من عرفوا جورج سالم في حياته مفارقةً بين نمط عيشه وموضوعات كتابته، إذ يؤكِّدون أنَّه كان مقبلاً على الحياة

 

أمس، حلّت الذكرى الثامنة والأربعون على رحيل جورج سالم (1933 ـ 1976) الذي يحتّل مكانةً خاصَّة في القصة السوريّة إلى جانب عددٍ من الأسماء المؤسِّسة، مثل زكريا تامر، وجميل حتمل، وسعيد حورانيَّة. خيّمت على أعماله تيمة الموت بدءاً من مجموعته الأولى «فقراء الناس» فيما أبطاله رجال خجولون مرتبكون، لا يجيدون التعامل مع الحياة

 

في التقليد القصصيِّ السوريّ، يحتفظ الكُتَّاب والمختصُّون لجورج سالم (1933 ـ 1976) بمكانةٍ خاصَّة، يحتلُّها عن استحقاقٍ إلى جانب عددٍ من الأسماء المؤسِّسة، مثل زكريا تامر، وجميل حتمل، وسعيد حورانيَّة، قد تكون جميعها أشهر منه. أفاد هذا الكاتب، الذي مرّت أمس الذكرى الثامنة والأربعون على رحيله، من إلمامه باللغة الفرنسيَّة في توسيع قراءاته، ما جعله ينظر إلى واقع مدينة دمشق التي تخرَّج من قسم اللغة العربية في كليَّة الآداب في جامعتها، وإلى واقع مدينته حلب التي تعلَّم في مدارسها وعمل فيها، وإلى واقع مجتمعه ككلّ، ببؤسائه وميسوريه، نظرةً تختلف عن نظرة أقرانه، التي يمكن إيجاد الكثير من نقاط الالتقاء في ما بينها بكل سهولة، لأسباب تعود بشكل رئيس إلى تشابه قراءاتهم وتأثرهم بأسلوب الكتابة ذاته.يرتبط اسم جورج سالم بالقصص القصيرة في الدرجة الأولى، مع أنَّ «عالم جورج سالم» (اسم الكتاب الذي ضمَّ الأعمال التخييليَّة الكاملة للراحل، وصدر عن وزارة الثقافة السورية في عام 2010) شمل، بالإضافة إلى خمس مجموعاتٍ قصصيَّة، روايةً واحدةً استهلَّ بها مسيرته السرديَّة، وثلاث دراساتٍ نقديَّة، وترجمتين إحداهما لكتابٍ يؤرِّخ للرواية الحديثة والأخرى لرواية «الطلسم» للروائي الجزائري محمد ديب.

 

 

قدّم نظرة مختلفة عن واقع مدينته حلب ببؤسائها وميسوريها

 

في روايته الوحيدة، التي عنونها «في المنفى» (1962)، نقرأ عن أستاذ مدرسةٍ شابّ (وهي المهنة التي عمل فيها الكاتب في الواقع) أُرسل إلى بلدة نائية موحشة كإحدى بلدات الغرب الأميركي، تقع وسط منبسطٍ من الأرض يحفُّه الضباب من كل الجهات. تأثَّر أهل هذه البلدة بطبيعتها، فأصبح لهم بدورهم طباعهم الخاصَّة، فهم شديدو الصمت والتجهّم، بحيث لم يتمكَّن الأستاذ الجديد من تبادل حديثٍ واحدٍ معهم طوال أشهر، ما عمَّق غربته حتى صار يعتبرها «منفى». يمكن للقارئ أن يربط بيُسرٍ بين هذه البلدة والبلدة التي ذهب إليها الراوي في رواية «بيدرو بارامو»، إذ يتبادر إلى ذهنه في مواقف عدة بأنَّ ناسها ما هم إلا أطيافُ أمواتٍ لا أشخاصاً أحياء، قبل أن يجد السبب لسلوكهم ونمط حياتهم المتحفِّظ في خوفهم من حاكم البلدة، الذي «لم يره قطّ، ولم يسمع أحداً يتحدَّث عنه. ومع ذلك، فقد كان في كلِّ مكان، لا تغيب عنه شاردة، ولا يُفلت منه شأنٌ من شؤون البلدة والناس»، ما يمنح هذه الرواية مسحةً ديستوبيَّةً مبكرة في الرواية العربية.

لا يُعين بطل الرواية على تحمُّل وطأة منفاه سوى مكتبةٍ عامرةٍ بمختلف أنواع الكتب، تفاجأ بوجودها في زاويةٍ هادئةٍ من زوايا أحد شارعَيْ البلدة المتصالبَيْن. يُرسِّخ وجود المكتبة، بأمينها العجوز الأصمّ، الطابع الغرائبي العجيب لهذه البلدة، قبل أن يفتح المدرِّس نافذةً جديدةً في حياته بعد اختراقه الملهى المقتصر دخوله على فئةٍ مختارةٍ من الموظفين الحكوميين والمُلَّاك في البلدة. هناك، يتعرَّف إلى المغنِّية التي «تتوق منذ زمن لرؤية إنسان (…) أجلس معه وأحدِّثه عن ذاتي وضيقي ووحدتي»، وهو ذاته ما يتوق إليه منذ أشهر. واعتباراً من هذا اللقاء، ينحدر المدرِّس إلى المصير المأساوي المحتوم لكلِّ من يتجرَّأ على زعزعة الروتين الأزلي وتخريب الاستقرار المضبوط في الأمكنة الجامدة.

أمَّا ما يلفت في قصص جورج سالم، فهو الحضور الكثيف للموت، الذي يرى الكاتب أنَّه «عالم واسع»، بدءاً من مجموعته الأولى «فقراء الناس» (من دون تاريخ صدور. الأرجح أنَّها صدرت في النصف الثاني من الستينيات)، إن كان في عناوين القصص «موت البجعة»، و«قبور فوق الأرض»، و«مصرع الفتى الأعمى» أو في متونها، حيث توجد دوماً توابيت بائسة، وحفرٌ رطبةٌ في الأرض تنتظر ابتلاع الجثامين، وحيث تعبر مواكب التشييع في الطرقات، ويلعب الأطفال في المقابر قبل أن يدفنوا فيها، مروراً بمجموعته الثانية التي حملت عنوان «الرحيل» (1970)، وصولاً إلى المجموعات التالية أيضاً، كـ«حوار الصُّم» (1973) و«حكاية الظمأ القديم» (1976).

تضمّنت رواية «بيدرو بارامو» مسحةً ديستوبيَّةً مبكرة في الرواية العربية

 

كما أنَّ سلوك أبطال قصصه في الحياة هو سلوك من لا يُجيد التعامل معها، ولا يجد نفسه متأقلماً مع وجوده في أماكنها وبين ناسها. رجاله خجولون مرتبكون، يشعرون بأنهم غير وسيمين وأقل من غيرهم بكثير. لا يألفون أماكن اللهو والمرح، ويتلعثمون عند الحديث مع سيدة، حتى إنَّ تلميذ المعلِّم في المدرسة يسرق منه الفتاة التي أعجب بها وجاهد من أجل التقرُّب منها.

ليس الموت في القصص خلاصاً من الحياة، بل هو حياة بديلة يعوِّض فيه الفقراء الموتى الظلم اللاحق بهم، فبدل الغرفة الضيقة المستأجرة، التي تشبه قبراً فوق الأرض، هناك المطالبة بقبرٍ واسع، إذ إنَّ «الضيق بشع، والبحبوحة جيدة، ولو كانت في القبر». وليس التعامل معه واقعياً دائماً، بل يصبح رمزيَّاً في بعض القصص، مثل قصة «القطار» في المجموعة الثانية، الذي تشبه رحلته التي لا تتوقف رحلة الحياة، والذي يجد الراوي نفسه على متنه رغم أنَّه لا يحبُّ السفر ولم يختَره، ورغم أنَّ «المقام غير مريح»، وحيث يكتشف أنَّ العمل إلزامي وإلا فلا طعام، وأن النزول غير ممكنٍ إلا في حالة الموت، حين تضطرب الرحلة قليلاً قبل أن تعود إلى سابق عهدها بعد أن يقذفوا بالجثة.

يسجِّل من عرفوا جورج سالم في حياته مفارقةً بين نمط عيشه وموضوعات كتابته، إذ يؤكِّدون أنَّه كان مقبلاً على الحياة بعيداً من السوداويَّة، وهذا ما يبدو في كتابته بشكل خاص عبر تناوله المرهف للرقص والموسيقى على أنواعهما؛ لحركات أجساد الراقصين والتأثيرات الشعورية لعزف العازفين. لكن يبدو أنَّ شعوراً عميقاً في داخله كان ينبئه برحيله المبكر، فكان يطرح هذا الشعور عنه عبر الكتابة… إلى أن انتهت حياته بشكل مفاجئ بجلطة دماغية وهو لم يبلغ الرابعة والأربعين من عمره، من دون أن يكون قد انتهى من تصريف الموت بالكتابة، حيث صدرت مجموعته الأخيرة «عزف منفرد على الكمان» بعد رحيله.

 

 

 

 

 

سيرياهوم نيوز١_الأخبار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

بارقات تومض في المرايا

  سعاد سليمان في جلسة أدبية للمجموعة الشعرية – بارقات تومض بالمرايا – للأديب منذر يحيى عيسى رئيس اتحاد الكتاب العرب بطرطوس أقيمت في المركز ...