حبيب فوعاني
أنا لا أهوى نظريات المؤامرة، ولا أصدق كذبة «بروتوكولات حكماء صهيون»، وكذلك الحكومة اليهودية العالمية السرّية. ولا أنظر بجدّية إلى الحديث عن زوال إسرائيل الوشيك في وسائل الإعلام العربية. بيد أن ما صادفته في بعض وسائل الإعلام الروسية، وكتابات الباحثين السياسيين الروس والأوكرانيين المستقلين، وفي المدوّنات الروسية والأوكرانية بعد بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا قبل أكثر من عامين، وبعد بدء عملية «طوفان الأقصى»، جعلني أعيد التفكير في كل ذلك. إذ إنّ الحديث يدور بجدّية عن إسرائيل جديدة ستُقام على ضفاف نهر الدنيبر. ولم يبدُ غريباً ما كتبه الباحث السياسي الروسي بوغدان جورافك في مقال له على موقع «دزين.رو» الروسي (26 تشرين الأول 2023) من أن «نقاشاً حثيثاً يدور في أوكرانيا، على خلفية الأحداث في الشرق الأوسط، بشأن معلومة عن قرار غير معلن لنظام زيلينسكي ببدء استقبال النازحين من إسرائيل».وحتى قبل بدء العملية العسكرية الروسية بوقت طويل كان النقاش يدور حول هذه المسألة في الكتابات السياسية والاجتماعية والعلمية الروسية، إذ لفت مؤلفوها الانتباه إلى حركة «حباد» الحسيدية، التي يبحث أتباعها عن «أرض ميعادهم». و«حباد» هي إحدى أكبر الحركات الحسيدية في اليهودية الأرثوذكسية وهي أكبر منظمة يهودية في العالم. أمّا نفوذها في أوكرانيا وروسيا فيدلّ عليه اعتذار نيقولاي باتروشيف سكرتير مجلس الأمن الروسي (آنذاك) في رسالة إلى صحيفة «أرغومينتي إي فاكتي» الروسية الأسبوعية عمّا كتبه مساعده أليكسي بافلوف في الصحيفة نفسها (25.10.2022) عن تغلغل «حباد» في أوكرانيا، وقول بافلوف إن علاقات الأوليغارشي إيغور كولومويسكي مع «حباد» علامة على أن أوكرانيا قد استولت عليها «الطوائف الوثنية الجديدة»، وذلك في إشارة إلى الحركة الحسيدية. جاء ذلك بعد مطالبة حاخام روسيا الأكبر بيرل لازار باتروشيف بالاعتذار.
ومن المثير هنا تسارُع وتيرة بيع الأراضي في أوكرانيا للشركات الأميركية بعد بدء العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا. إذ إن من 40 مليون هكتار من أراضي التربة السوداء الأوكرانية الخصبة الشهيرة تحوّلت ملكية 17 مليوناً منها إلى الشركات المتعددة الجنسيات «كارجيل»، «دوبونت» و«مونسانتو».
وقد اتهم نيقولاي باتروشيف سكرتير مجلس الأمن الروسي آنذاك ومساعد الرئيس الروسي الحالي الولايات المتحدة بأن «الحفاظ على أوكرانيا كدولة لا يدخل في خططها». وقال باتروشيف في مقابلة مع صحيفة «إزفيستيا» الروسية (02 05 2023)، إن «أميركا تحتاج إلى أوكرانيا فقط كأداة للاستغلال الذي لا رحمة فيه للموارد الطبيعية المتاحة من دون سكانها التقليديين». وأضاف: «باتباع خط نازي كهذا، حولت واشنطن بالفعل أوكرانيا إلى منطقة يغادرها جماعياً ملايين الأشخاص سعياً إلى العثور على حماية في خارج البلد من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والاضطهاد الفاشي».
ويبدو أن الشراء غير المسبوق للأراضي الأوكرانية، وما يصاحبه من حث المواطنين الأوكرانيين الباقين على الهجرة إلى أوروبا، مرتبط بطريقة أو بأخرى بخطط إنشاء تكوين ما على أرض الدولة الأوكرانية. وقد سأل بوغدان جورافك في مقاله المذكور آنفاً: «هل هناك داع للتعجب من حقائق تطهير أوكرانيا من السكان، الجلية لأي مراقب موضوعي وغير متحيز؟».
يشكو المدوّنون الأوكرانيون المحليون من تحوّل المدينة إلى مدينة يهودية، تنتشر في كل زاوية منها اللافتات باللغة العبرية، ويصنع فيها الطعام اليهودي الحلال «كوشير»، ويُباع في متاجرها
هذا، وفي مقال له على موقع 19FortyFive الأميركي (11-10-2023)، أكد المحلل الجيوسياسي الأميركي براندون ويشيرت، بعد بضعة أيام من بدء عملية «طوفان الأقصى»، أن «إسرائيل قد تتكبد هزيمة في ظل عدد من الشروط». ورأى أن إسرائيل لن تصمد من دون دعم الولايات المتحدة. وأضاف أن «إسرائيل ستتكبد هزيمة شاملة، وذلك إذا ما بدأ حزب الله، المدعوم من إيران، حملة مديدة ضدها في الوقت الذي تحارب فيه إسرائيل ضد حماس».
ورغم النجاح الآني الظاهري، الذي تحرزه إسرائيل في غزة، «بفضل» الوحشية والفظائع، التي ترتكبها هناك، وسط الصمت العربي والإسلامي، فإن أحداً لا يجرؤ على التنبؤ بما ستنتهي إليه هذه الحرب المديدة بين إسرائيل وحماس وحزب الله. وفضلاً عن ذلك، لا يمكن استبعاد احتمال توحّد العالم الإسلامي بأسره ضد إسرائيل في نهاية الأمر، على خلفية المجازر التي يتعرّض لها الفلسطينيون، وكذلك العالم العربي، الذي لا يزال قادته في غالبيتهم يعربون عن تضامنهم معهم بالتصريحات الرنانة.
أمّا على الصعيد الأوكراني، فلا بد من الإضاءة أيضاً على نشاط حاكم مقاطعة دنيبروبتروفسك السابق (2015-2016) الأوليغارشي اليهودي إيغور كولومويسكي، عرّاب فولوديمير زيلينسكي، الذي نال شعبيته بفضل إحدى قنوات كولومويسكي التلفزيونية الضخمة. وهو ما مهّد لاعتلاء الفنان الكوميدي اليهودي كرسي الرئاسة في عام 2019. وقد شارك المواطن الإسرائيلي الحالي كولومويسكي في ترميم كنيس الخراب (هورفا) في القدس، وتجديد الأنفاق على طول حائط البراق. وهو قد أولع بمشروع «خزاريا الجديدة»، في توازٍ مع دولة خزاريا القديمة، التي أسسها الخزر، الذين اعتنقوا اليهودية في عام 740، على شواطئ بحر قزوين. غير أن كولومويسكي سمّى مشروعه «القدس السماوي»، ملمحاً بذلك إلى إقامة دولة يهودية «بديلة» في أوكرانيا في حال «هلاك» دولة إسرائيل الحالية.
وكان كولومويسكي قد جاء في عام 2011 إلى مدينة أومان، وزار ضريح الحاخام نحمان البريسلافي، مؤسس التيار البريسلافي في الحركة الحسيدية، بمناسبة حلول «روش هاشانا» (رأس السنة العبرية الجديدة)، وصلى في كنيس المدينة الأوكرانية. وليس هذا شيئاً غريباً، ولا سيما أن علاقاته باليهود والحسيديين منهم في مختلف أرجاء العالم هي أشهر من نار على علم. أمّا أومان، التي يبلغ عدد سكانها نحو 90 ألفاً، فأصبحت المدينة اليهودية الأولى في أوكرانيا بعد بدء نزوح الإسرائيليين إليها بفعل أوضاع بلدهم المتفاقمة.
وفي كل عام يأتي إلى هذه المدينة حجّاج من اليهود الحسيديين من إسرائيل ومختلف أرجاء العالم، وقد زاد عددهم في عام 2023 على 35 ألفاً. غير أن كثيرين من الحجاج الإسرائيليين يبقون في أومان بهدف الاستقرار الدائم فيها، حيث يتزايد عدد اليهود في المدينة الأوكرانية عاماً بعد عام.
وفي ضوء ذلك، يشكو المدوّنون الأوكرانيون المحليون من تحوّل المدينة إلى مدينة يهودية، تنتشر في كل زاوية منها اللافتات باللغة العبرية، ويصنع فيها الطعام اليهودي الحلال «كوشير»، ويُباع في متاجرها. وليس هذا فقط، فقد أصبح لليهود منظومتهم الصحية الخاصة ولديهم سيارة إسعاف خاصة بهم، ما جعلهم يحسبون أنفسهم أصحاب المكان، فينتهكون حرمة القانون الأوكراني، ويخلّون بالنظام العام. كل ذلك استدعى مشاركة رجال الشرطة الإسرائيليين عام 2023 لبسط النظام في المدينة الأوكرانية، إبّان عيد رأس السنة العبرية الجديدة.
وعلى صعيد متّصل، كان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قد صرّح (06/04/2022) بأنه يعتزم إنشاء «إسرائيل الكبرى» في أوكرانيا.
إلى ذلك، تدور أحاديث في كواليس أصحاب القرار في كييف «عن عدة ملايين من الإسرائيليين يُخطط لإعادة توطينهم في الأراضي الأوكرانية، وخاصة في جنوب البلاد». ولا يُستعبد ذلك في ضوء قرارات مالية غير معلنة اتخذها نظام زيلينسكي، ويتحدث عنها بعض المدونين الأوكرانيين الساخطين، الذين يغمزون من قناة ديانة زيلينسكي اليهودية، وأحد هذه القرارات يقضي بدفع إعانات اجتماعية لكل نازح إسرائيلي بمبلغ 20 ألف غريفنا (678 دولاراً تقريباً).
ولعله لذلك، لم يعد الأمر مرتبطاً بنظريات المؤامرة، ويبدو أن شيئاً ما يُطبخ بهذا الصدد في دهاليز الدولة الأوكرانية.
* كاتب لبناني مقيم في موسكو
سيرياهوم نيوز١_الأخبار