| عمر غفير
إن الفعل السياسي الإجرائي في ارتداده وتأثيره أو في إنتاجه وصناعته يختلف وقعه في ثلاثة مستويات أساسية وضمن ثلاث دوائر معنيّة فيه بشكلٍ أو بآخر:
ـ مستوى المفكرين بالفعل والمنظرين فيه.
ـ مستوى صُناع الفعل ومنفذوه.
ـ مستوى من يقع عليه الفعل ويتلقاه.
تلك هي المستويات أو الدوائر الأساسية من حيث المُدخل والمُخرج لكل فعل سياسي يمكن أن يؤتي بمآلات مستقبلية سواء على المدى البعيد أم متوسط القرب، وانطلاقاً من التحليل البنيوي لمستويات التأثير بمحتوى ومضمون الفعل علينا أن نؤكد على وجود اختلاف بتسميات ومصطلحات التعاطي عند كل مستوى من المستويات آنفة الذكر.
فعندما يدرك صناع القرار الدولي بأن هناك حاجة لتقارب دولي ما أو تصعيد ما في إحدى الساحات الدولية المتوترة، فإنها تُجَهز لتلك الحاجة مجموعة من الأدوات اللازمة لحياكة هذا الملف وإنتاجه، ولابد أن نشير إلى أن الآلة الإعلامية والصياغة السياسية والتصريحات والتبادل الدبلوماسي الرسمي وغيرها من الأدوات الناعمة هي أشكال أضحت كحقيبة لزومية تُستخدم في كل أشكال بناء التفاعلات بين الدول، البينية منها والدولية، وقد برزت تلك الحقيبة تحديداً وبوضوح بعد سيطرة نظام القطب الواحد، الولايات المتحدة الأميركية، بنسقها الفكري البراغماتي الذي يجنح لعدم نشوب الحروب المباشرة وإنما افتعالها عبر الوكلاء في الكثير من المفاصل لمعالجة الكثير من الملفات.
وبما أننا اليوم أمام سردية العلاقات السورية- التركية التي أصبحت ذات غليان عالي المستوى نتيجة التوتر غير المنقطع منذ منتصف عام 2010 ولغاية اليوم، إضافة إلى الشكل التاريخي لهذه العلاقة الحاكمة بين البلدين الجارين الذي يمكننا وصفها بأنها علاقة خصام سياسي مبدئي غير معلن، وبأنه في حال وجود توافقات مرحلية فهي توافقات ذات بعد جيواستراتيجي تحكمه ظاهرة الإقليم بأمنه الكلي والجغرافيا كعنصر أساسي في تحليل ظواهر العلاقات الدولية ولا تُحتكم تلك العلاقة بالبعد الجيوبولتيكي الذي يُضفي على العلاقة البعد المصلحي لكيان الدولة القائم والمستقل بحد ذاته بمصالحه الخاصة والمنعزل نظرياً عن أي شكل من أشكال المصلحية الإقليمية والدولية ببعدها العام.
إن المحطات الأساسية المتعاقبة كانت دائماً ذات طابع الباحث عن السيادة والأمن القومي والاستقرار الداخلي لكل دولة خشية من الثانية، فبعد انتهاء حقبة الاحتلال العثماني لبلاد الشام وانحسار حدود الإمبراطورية لتصبح على شكل دولة الجمهورية ذات حدود سياسية واضحة، بدأت ظواهر التوتر بالظهور ابتداءً من تجربة سلخ اللواء السوري بالاتفاق مع القوى الفرنسية حينها، مروراً بمشكلة الأحزاب الكردية والقوى السياسية المهددة للأمن القومي التركي على الحدود السورية التركية وفي العمق، وصولاً لاتفاق سياسي سمّي باتفاق أضنة الذي أرسى قواعد استقرار نسبي بين الدولتين الجارتين وتوصلوا إليه إكراهاً ليكون بمثابة قاعدة انطلاق تمهيداً لما تم العمل عليه مع بداية القرن الواحد والعشرين من تحسن في مستوى العلاقات السياسية والتبادل التجاري وتسهيل حركة الترانزيت وخفض الرسوم الجمركية وتشجيع استيراد الصناعات التركية واعتبار الأسواق السورية مكاناً لتصريف فائض المنتج التركي، على حساب المنتج الصناعي السوري وكفاءته وتكاليف إنتاجه، واتسمت تلك العلاقات بالطبيعية لا بل ذهب البعض لإطلاق مسمى العلاقة الذهبية والنموذجية في الإطار الاقتصادي والسياسي.
إذاً نحن أمام تفصيل تاريخي يعيد نفسه بشكل آخر، ولكن وفق قواعد اللعبة السابقة، وإن ما يُسمع في وسائل الاتصال والتواصل عن تطبيع علاقات ما هو إلا قفزة إلى الأمام متجاهلة من حيث الشكل والمضمون، قواعد انطلاق أساسية في مسار عودة العلاقات والتفاهم على مستقبلها وتأمين ديمومتها ومن ثم التأكيد على شكلها الطبيعي، وهنا لا بد أن نفرق ويكون هذا التفريق ضرورة ملّحة في إطارها العملي، على أنه في الشكل المتنامي لظاهرة العلاقات السورية- التركية لابد أن تنطلق من قاعدة اتفاق أو حامل سياسي قائم، ولم تجد الدول الضامنة روسيا وإيران والعراق، أكثر نفعاً من اتفاقية أضنة بوصفها حاملاً سياسياً يمكن أن تُبنى عليه تفاهمات المرحلة المقبلة لرسم السياسات وتوضيح التداخلات وفض الاشتباكات وكشف الملابسات، وهذا ما أكدت عليه سورية عبر أكثر من تصريح يوضح إرادة سورية لشكل الاستمرار بمسار التهدئة ومن ثم انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية والتأكيد على السيادة وحمايتها ومن ثم التطبيع، وقد أشار إلى ذلك الرئيس بشار الأسد في كلمته أمام مجلس الشعب بتاريخ 25 آب الماضي الذي قال فيها: «إن أي عملية تفاوض تحتاج إلى مرجعية تستند إليها لكي تنجح وعدم الوصول لنتائج هو بسبب عدم وجود مرجعية…»، بالمقابل لا نجد بالخطاب الرسمي التركي أن هنالك تشابهاً وتقاطعاً في وجهات النظر، حول تحديد الأرضية اللازمة لبدء التفاوض في ظل انسداد في الأفق السياسي بالإقليم ككل نتيجة عوامل ما يجري في معركة طوفان الأقصى وممارسات الكيان المحتل والسياسات العربية حيال ذلك والتصعيد التبادلي بين كيان الاحتلال وإيران من جهة وبينه وبين قوى المقاومة اللبنانية واليمنية والعراقية من جهة أخرى، إضافة لممارساته في الساحة السورية الذي يُشكل تصعيداً إقليمياً ينعكس على الانتخابات الأميركية والحرب الأوكرانية دولياً ويتقاطع في إحدى جوانبه مع الخلاف الدائر بين الفصائل والقوى التي تُسمى بالمعارضة داخلياً في سورية بشمالها وشمال شرقها وعلى الحدود التركية وفي العمق التركي ببعض الأحيان.
هذا التباين في الموقف السوري- التركي تجاه الوصول لبدء التسوية يمكن أن نطلق عليه حراكاً لما قبل بدء مسار التفاهم لنأتي بعدها للحديث عن الصلح الذي يمكن أن يفضي إلى ما يسمى التطبيع أي «عودة العلاقات الطبيعية» والتي أراها من زاوية تاريخ العلاقة أنها غير قابلة للتطبيق ما لم تنطلق على أساس معالجة المشكلات البنيوية العميقة وعلى أساس احترام السيادة الكاملة والاعتراف بالمصالح المتبادلة بسويّة واحدة والتغيير الهيكلي والفكري بمنظومة السياسة التركية تجاه جيرانها وأعدائها وحتى حلفائها، والبدء برسم معالم لاستراتيجية جديدة كلياً بخلفيات واعتبارات وإيديولوجيات جديدة ومتجددة.
كاتب سوري
سيرياهوم نيوز١_الوطن