بول مخلوف
إذا كنت لا تتقن اللغة العبرية ومهتماً بشكلٍ جدّي بمتابعة أخبار العدو الإسرائيلي، فما عليك سوى متابعة المنصة اللبنانية الصادرة حديثاً، تلك التي أخذت من جريدة أميركية عريقة، «نيويورك تايمز»، اسماً لها مع تعديلٍ طفيف يطال الوزن؛ «بيروت تايم». لو أردنا ترجمة تسمية «بيروت تايم» إلى العربية، سنجد المعنى الأقرب لها هو «زمن بيروت» وليس «وقت بيروت»، إذ إنّ الثانية كناية عن ترجمة حرفية، وسقطة في البراءة الساذجة الغافلة بأنّ ثمة مقصداً ودافعاً سياسيين وراء أيّ عملٍ إعلامي. نحن إذاً أمام زمنٍ بيروتيّ، والمنصة تزعم أنها معنيّة بنقل أخبار هذا الزمن، والزمن هنا هو المرحلة. عندما يتحدث أحدٌ- مسيّس- في لبنان عن زمنٍ بيروتيّ، أي عن مرحلة بيروتية، فعلينا الانتباه قليلاً وعليه التروّي كثيراً.«بيروت تايم» منصة نشأت حديثاً، انطلقت بعد 7 أكتوبر 2023 بأشهر قليلة، وعلى الأرجح فإنّ وقع 7 أكتوبر المدوّي كان علة وجودها ذاك حتى تكون صدى يبث ذبذباتٍ مشوّشة تخرب مقام الصوت الأصيل.
منذ ولادة «بيروت تايم»، طاف الهزء من أي شكل من أشكال المقاومة الفلسطينية والإعلاء، بالمقابل، من شأن الفاجعة الغزية. إنه التلطي وراء الكارثة الإنسانية بهدف تمرير رسائل الإذعان والاستسلام، وتسليم العدو أرواح الأجيال المقبلة. لا يحتاج الخط التحريري لـ«بيروت تايم» إلى فيلسوف تفكيكي لكي يستنتج أنّ المنصة تعمد إلى تحميل المقاومة الفلسطينية مسؤولية الكارثة التي حلّت على غزة، وتصوير كل من يقاتل إسرائيل مجرماً تدفع الشعوب ثمن الخراب الذي خلّفه قراره وراءه.
«بيروت تايم» منصة تعرّف عن نفسها بأنّها «منصة إعلامية استقصائية مستقلة»، ووظيفتها الرئيسية هي نشر أخبار العدو بالعربية. دائماً ما كانت علامات الاستفهام تحضر عند الحديث عن (مدى) استقلالية أي جهة إعلامية، ولكنّ تصنيف المنصات الإعلامية نفسها بأنها استقصائية، وهي موضة رائجة عند الذين تدربوا (تجنّدوا) في مؤسسات الحزب الديموقراطي الأميركي، بات يحتاج إلى استقصاءٍ جدّي. من يتذكر بدعة شهود الزور التي أوجدها الإعلام اللبناني وروّج لها على إثر مقتل رفيق الحريري، سيستشفّ أنّ «بيروت تايم» خرجت حديثاً من مجالس تلك البدع. المنصة الاستقصائية، مع الكثير من الضحك على استقصائية، تنشر معلومات تردها من مصادرها الخاصة من دون أي تدقيق أو إعادة النظر في مدى صحتها: رسائل تضمنت تهديدات تلقّاها اللبنانيون جزمت المنصة بأنها قادمة من «إسرائيل»، وخبر عن إخلاء بناية «الكونكورد» في بيروت أرفقتها بصورة لبنك في شارع الحمرا.
أمامنا نهج جديد في الصحافة. «بيروت تايم» تستقي معلوماتها من قنوات إسرائيلية ـــ غالباً القناة 12 ـــــ على طريقة «كوبي بايست»، أو مثل مجموعات واتساب التابعة للعائلة. «بيروت تايم» من دون أي مسافة نقدية، أو تشكيك بصحة الأخبار الواردة، أو التمحيص في طبيعة هذه الأخبار. المهم أن ينتمي الخبر إلى المعجم التالي: غارة، اغتيال، تهديد من نتنياهو أو اسم مسؤول في «حزب الله » تم استهدافه. بين خمسة أخبار منشورة، هناك ثلاثة منها للمتحدث باسم «الجيش» الإسرائيلي، فيما الباقي يتوزع بين تهديدات لنتنياهو وتصريحات إيرانية ديبلوماسية هادئة وسط ضجيج الحرب، والغرض من نشرها هو إعادة تكرار الأسطوانة ذاتها وإبراز إيران على أنها نائية بنفسها عن قرار الحرب وتشغّل «أذرعها» عوضاً عن تدخلها المباشر.
القواعد الصحافية هنا مقلوبة رأساً على عقب. في حين أنّ الرصانة والأخلاقية المهنية في أسفل الهرم، تجد الأخبار التي تجسّد تهويمات المحررين في أعلى الهرم. كلما كان الخبر المنشور في صحافة العدو ضخماً، كلما زاد من إثارة المحررين وسارعوا إلى نشره. والخبر الضخم في معيار «بيروت تايم» هو ذاك الذي يعلن عن «تفوّق» إسرائيلي على المقاومة. قد يكون اغتيالاً، أو غارة، أو حتى تهديداً شفهياً، مع «بيروت تايم» يجري تصريفه على شكل مانشيت عريضة، ويُعرض على أنه انتصار ماحق للعدو.
قد تكون إمبراطورية «سكاي نيوز» الإعلامية التي يديرها نديم قطيش، مثل وسائل إعلامية أخرى كـ«العربية» و«الحدث» في حالة من التماهي التام مع الخطاب والسردية الإسرائيليين. لكن مع «بيروت تايم» الموضوع مختلف. ليس لأنّ مركز المنصة يقع في بيروت فحسب، ولا لأن الاشتغال الصحافي عندهم يتعدّى الانحياز السياسي لإسرائيل حيث في وسع هذا الانحياز ـــ في لبنان الديموقراطي ـــ النجاح في التستر وراء قيم الاختلاف، وحرية التعبير، ومحافظة المنحاز على فصاحته، إنما لأنّ «بيروت تايم» تخدم إسرائيل في حروبها. ما يفرّق «بيروت تايم» عن عائلة الإعلام المطبّع، هو أنها الوسيط المباشر للإعلام الحربي الإسرائيلي، وربما هي المنبر العربي الرسمي له. لا نقرأ عن أحوال سياسية إسرائيلية، كتظاهرة حدثت في تل أبيب أو وزيراً انتقد نتنياهو… الحال، جلّ ما نجده هو جبروت إسرائيلي يفيض قوّةً بينما نحن ضئيلو الشأن أمامه.
الصحافة الاستقصائية باتت موضة رائجة عند الذين تدربوا في مؤسسات الحزب الديموقراطي الأميركي
لعلّ هذه الفعلة تصبو إلى إثم نابع من مبتدئ في الصحافة، متحمّس للحرب وقد اختار الخيانة، ولكنّ «بيروت تايم» تخطّت المحظور. كونها المنبر الحربي الإسرائيلي، غدت تحرّض على الاغتيال وتعرض صوراً وأسماء المسؤولين العسكريين الذين بقوا على قيد الحياة. تقلّد «بيروت تايم» الطريقة التي تنتهجها منظمات مكافحة الإرهاب، حيث داخل الغرف التي يجتمع فيها العسكر والضباط لملاحقة المطلوبين، هناك لوح خشبي يحمل صوراً تضمّ «الأشرار» المتوجب تصفيتهم. بعد استشهاد فؤاد شكر، نشرت المنصة صورة كبيرة أشبه بخارطة دالة على القيادة العامة لـ «حزب الله »، تظهر هرمية التنظيم العسكري وتفرعاته. الصورة الكبيرة تحمل أسماء وصوراً للقادة الذين استشهدوا ومن بقي منهم على قيد الحياة. في حالة الاستشهاد، تهرع «بيروت تايم» لإعداد تقرير حول من استشهد، مع شرح لمكانتهم وتاريخهم وأهمية دورهم. على أنّ هذا الإفشاء، بالإضافة الى حملات الترويع والتخويف للمواطنين اللبنانيين التي لا تنفك المنصة عن بثها وإعادة نشرها، لهو إبراز لإسرائيل على أنها عصية، وقاهرة، وعظيمة. أما في الوشاية على القادة الذين على قيد الحياة، فإنه توعّدٌ من «بيروت تايم» عما هو قادمٌ. هكذا تدخل المنصة نطاق الحرب، وتختار عدم التخلي عن الجهة التي تتوسّط لها وحيدة. على أنّ مهمة التهديد والوعيد التي أخذتها المنصة على عاتقها غير محصورة بالإطار العسكري بل تطاول المدنيين أيضاً، وهو درس إسرائيلي يبدو أنه تم حفظه جيداً. تقرير نشرته المنصة أخيراً، يدور حول حدث استثنائي يكاد يكون حالة فردية حصلت في منطقة زقاق البلاط؛ حيث مهجّرون أتوا من القرى الجنوبية واقتحموا مبنى سكنياً واستولوا عليه. تزوّدنا «بيروت تايم» في تقريرها بالمشهد التالي: ثمّة مخربون هائمون في المدينة، المهجرون من قرى الجنوب أشبه بالوحوش. يبدو أنّ البندقية ليست حكراً على الجبهة العسكرية فقط، «بيروت تايم» تشهرها بوجه المدنيين ولو من وراء الشاشات.
لم يكن زمن بيروت يوماً زمن الهزيمة الطوعية، أو الهزيمة السهلة، ومن المؤكد لم يكن زمنها إسرائيلياً. نملك جواباً عن زمن ظهور «بيروت تايم»، وأصل هذه الجينات، لكن عندما تنتهي الحرب، على أحدنا أنّ يسأل لا عن الزمن أو الزمان الذي نعرف الجواب عنهما، بل عن مكان هؤلاء الجديد.
سيرياهوم نيوز١_الأخبار