محمد ناصر الدين
ليست هذه سيرة شخصية أو تاريخية للسيد حسن نصر الله، هذا أمرٌ يُترك للباحثين والمؤرخين والمنكبّين على التفاصيل الدقيقة يتّبعون فيها منهجاً موثّقاً ويتبعون فيها محطّات حياة الرجل من يوم مولده حتى قضاء نحبه في خيط يسير كالسهم. هي بالأحرى سيرةٌ شعرية ووجدانية كما تخيلها كاتبها، إذ كان لكل واحدٍ منّا حق في «السيد» الذي كان وسيبقى جزءاً من يومياتنا وحياتنا وتفاصيلنا الصغيرة والكبيرة، يرافقنا صوته الدافئ مثل كل الأصوات الأليفة التي تكسر قسوة الحياة وتجعلها أكثر لطفاً، كخشخشة الأشجار في أيلول، وصوت البحر تحت كورنيش بيروت، والريح الراحلة ذهاباً وإياباً بين قلعة الشقيف من بلاد عاملة وتلال الريحان: إنها سيرة شخصية جداً، في محطات انسكب «السيد» فينا وانسكبنا فيه، ويمكن لكل قارئ لهذا النص أن يستبدل حكايته وذكرياته مع وعن الرجل أو ما سمعه عنه بهذه المقاطع الخمسة أو بعضها، وأن يرويها لأبنائه وأحفاده كما يريد. ألا تصنع ذاكرة الشعوب وروحها ووجدانها من القصص الصغيرة؟ سيكون «السيد» مثل الخُضر في الأسطورة، يشرب من عين ماء الحياة ويطوف على المساكين والفقراء حاملاً زاداً وسيفاً، كأنما يحمل دمه على راحتيه ويقلب المعجزة، ينقلب النبيذ إلى ماء في عرس قانا الجليل ويسيل رقراقاً في الوديان إلى وجهته في البحر.
السيد حسن نصر الله عام 1992
1. صورة في حيّ شرشبوك
كان الحيّ خليطاً ممن لفظتهم المدينة حتى التخوم، واحترفت في وصمهم بالغرباء، كل القادمين من جهة القبلة أو «القبلاوية»، لنزوحهم من قرى أجدادهم في الجنوب البعيد، لينضم إليهم في نسب الغربة أولئك الهاربون من مذابح الأرمن، ومَن نسيتهم الدولة ونسوها في البقاع المظلوم، والمهجّرون من فلسطين ولمّا تجف المياه التي غمرت أقدامهم في نهر الوزاني حين عبروه تاركين خلفهم بيوتهم وحقولهم وبياراتهم المحروقة في تلال الجليل. يجلس الفتى «حسن» المولود في حيّ الصفيح هذا قبل عقد ونيّف (1960) في دكانة والده عبد الكريم، يحدّق في صورة صغيرة يمسح والده عن زجاجها الغبار كل صباح، كما تمسح جارتهم ماري صورة العذراء الحانية وابنها في الأيقونة البيزنطية: موسى الصدر بعينيه الخضراوين الجميلتين، نبيّ المحرومين والمستضعفين في أحزمة البؤس النابتة كالدمّل على خصر العاصمة. يحلم الفتى بأن يمشي خلف الإمام مع جموع الفقراء ليدقوا أبواب المدينة التي أرادتهم عتّالين عند المرفأ أو بستانيين في جنينة البيك، وهم أرادوا حصتهم كاملة في بحرها ووردها، أن ينفذوا إلى قلبها، فلا تدفعهم شرايينها عنوة نحو الأطراف. سنة واحدة فقط وتقتلع جرافات الفاشيين حي شرشبوك بأكمله مع مخيمات تل الزعتر وجسر الباشا والضبية وحي المسلخ المجاور، وتجرف معها دكانة عبد الكريم، يحمل الفتى من حطام طفولته تلك الصورة التي سيغيب صاحبها إلى الأبد هو الآخر بعد عام في رحلة إلى ليبيا: دار في خُلد «حسن» الذي تختلط جملة الإمام (أنتم يا إخوتي الثوار كموج البحر متى توقفتم انتهيتم) بحبات سبحته الثلاث والثلاثين خاطرٌ عجيب: لقد قتلوا الإمام لعينيه الخضراوين وطالعه الجميل.
2. الشيخ والمريد وثالثهما الرضوان
توسّم الشيخ محمد الغروي إمام «مسجد الإمام الصادق» خيراً في الفتى النازح من الكرنتينا إلى مسقط رأسه البازورية في الجنوب اللبناني: كان لا بدّ للمريد من شيخ للطريقة على عادة العرفانيين والمتصوفة: دلّه الغروي على رجلٍ يقول الناس إنّه يمزج الفقه بالزهد، وإن أرجل الأرائك مكسورة في بيته يستحي من النجار الذي يصلحها له في كل مرة، حياء علي ابن أبي طالب من راقع مِدرعته. أمسك الموسوي بيد الفتى حسن في الطريق في كل خطواته بين الحوزة العلمية في بعلبك والنجف الأشرف وقم (1976 ــ 1979)، حتى هبّت الرياح من ناحية جبال البرز: رجلٌ من جبال طالقان يقول الشاعر إنه بشعب إيران يكتب فاتحة الممكنات. كانت ممكنات الرجلين، الأستاذ والمريد، صعبة مثل حفر إبرة في جبل: عدوٌ منذ عام 1948 يربض على تخوم الأرض العاملية، ثم صراحة في قلبها في اجتياحَي 1978 و1982. كان لا بد للرجلين من ثالث ليكتمل ثالوث الاسم والمعنى والباب، كما تقول عقائد الرفض الضاربة في التاريخ: ثمة رجُلٌ عشريني يخرج من زاروب صغير في محلة «عين الدلبة» في برج البراجنة يُقال له رضوان، يملأ الشاحنات بالمواد المتفجرة بفدائيين لعلهم أخوة الذين يخرجون من قلعة ألموت في بلاد البرز ذاتها، يقتحمون المنايا ومياه الغسل لمّا تجف عن رقابهم. خرج ذلك التنظيم من الرحم الصعب، بتوليفة هي أشبه بلعبة شطرنج بين موسى الصدر وماركس وأبي عمار والخميني، رافعاً في الثمانينيات شعاراً صعباً وبندقية على الراية الصفراء الخافقة.
3. سميتك الجنوب
غاب السيد عباس في ظهيرة قاسية من شباط، طاردته طيارة الهليكوبتر فوق تلال تفاحتا، لتقتل غيلةً من كان يطعم المقاومين بيديه ويجول على أحياء الفقراء في حي السلم والليلكي، كما يجول الزهاد في القصص القديمة وتتورم ظهورهم من ثقل أكياس صدقة السرّ. غاب أبو ياسر الذي يمسح على رؤوس المجموعات التي اجتاحت، دفعةً واحدةً، كل مواقع الاحتلال واللحديين من بصليّا ووادي الليمون مروراً بصافي والرادار وصولاً إلى الدبشة وعلي الطاهر والسويداء.
يجلس الصبيّ في دكانة والده عبد الكريم، يحدّق في صورة صغيرة يمسح والده عن زجاجها الغبار كل صباح: موسى الصدر بعينيه الخضراوين الجميلتين
تململت الجموع في ذلك التشييع المهيب في «النبي شيت». كان المريد يعرف أنّه سيحمل على كتفيه الجبل الحاضن أحزان التاريخ، من كُتب مكتبات «أنصار» و«ميس الجبل» التي أحرقها الجزّار في أفران عكا، إلى فرَس ناصيف النصار التي كبَت على البلاطة عند مقبرة يارون، وأدهم خنجر المصلوب في الشام والبارود على يديه من مخزن المارتينة التي أصابت كتف غورو الدائس بقدمه على تربة صلاح الدين. كان العشب يصل إلى ركبة «حسن» مثل كف الله وتتحرك التلال الجنوبية من مكانها، وينظر الناس إلى بيوتهم البعيدة خلف السياج، وقد أقفرت من ساكنيها فيرونها تقبل نحوهم بتينها وزيتونها وسمّاقها وريحانها، ويبصرونه يستلّ البارودة من رجاله قرب الملّالة في الضاحية ويرفعها إلى السماء، فتدبك الملائكة في صف واحد من حارة حريك حتى بركة الدردارة في سهل الخيام: تقول عجائزهم إنه في اليوم الخامس والعشرين من أيار من سنة ألفين، كان يركب فرس جده الميمون، والورد يزهر تحت قدميه، ويضيء وجهه في حقول التبغ كالكوكب الدرّي.
4. سمك القرش يئن من الطعنة
إنه تموز من عام 2006 وعشرون مجزرة في القرى على طريق الإمام الذبيح، كما يقول الشاعر. تتقدم البارجة من شاطئ بيروت تقدّم الفهد نحو الغزالة الطريدة. جاء في التلفزيون عند الظهيرة أن «المنصور»، وهو أحد الأسماء الحسنى للفتى، قضى نحبه تحت فكّ الطائرات. نكّس النازحون أعلام قلوبهم عند التلال المطلّة على العاصمة، وكان الخبر ــ الشائعة أثقل على قلوبهم من رؤية البارجة تدك بيوتهم التي يبصرونها من علِ تسقط على ركابها وتهوي. حامت عيونهم على التلفزيون كما حام الجواد المسمّى بالميمون على جثة جده الحسين مبللاً خطمه بالدم ثم شاقّاً الفرات إلى نصفين، ليغيب ويظهر طالباً الثأر مع الإمام الغائب في سرداب سامراء: انشقت الشاشة في مساء ذلك اليوم عن «المنصور» يشقّ البحر نصفين هو الآخر، يسدد ضربته في قلب سمكة القرش تئن من الطعنة ويصرخ: «انظروا إليها تحترق». اندلع رصاصٌ كثيف في سماء القرى، كانت جيوش الفقراء والزنج والأمم المغلوبة تنظر إليه وتغني مع «شمس»: «مَن ذا يعيد إلى السهولِ شواردَ الأنهار/ يأمرها فتجتمعَ المياهُ على المياه؟/ مَن ذا يهز مقابر الأرقام حتى ينهضَ الموتى/ ويُعرفَ كلّ حيٍّ باسمه؟/ مَن ذا هو الرجل الذي ألقى عباءته على الجبل الرفيعِ/ وأيقظ المتوسطَ الغافي/ فماج الموجُ/ وانكشفت دلافينُ البحار؟ مَن ذا هو الرجل الملثم بالنبوءةِ /والمعمّمُ بالنهار؟».
Ad
توسّم الشيخ محمد الغروي إمام «مسجد الإمام الصادق» خيراً في الفتى النازح من الكرنتينا إلى مسقط رأسه البازورية في الجنوب اللبناني
5. لقد شيّعتك دموع الأمهات
لو بقيت يا رضوان بين الخلّة ووردتها ظلّاً لشجرة، تُخرج جند يوشع بن نون من قلعتهم وتستدير نحو شمس الأسطورة وقد جفلت في الأفق. لو لم تخرج في ذلك اليوم من شباط إلى كفرسوسة وتبصر من جهة درعا والشام ما يفتح في تفاح غوطتها، ما يختلط فيه الباطل بالحق، ويكون فيه الخيار بين الرمضاء والنار، وينزل القيح والدمّل من جسد السنونو الذي أراد أن يكمل ربيع الآخرين فصنع خريف نفسه. ثم كان الطوفان. جال بيت المتنبي الشهير في خاطر «الفتى حسن»: وسوى الروم خلف ظهرك روم، ها كل الروم فوق نحر غزة لينحروها: يقف رجل بلحيته الموشحة بالفضة وسورة النصر فوق الأرض العاملية، يرسم نهراً، يزرع شجراً، يخبئ الصواريخ تحت شجر الجنوب وبين شتول التبغ ويرسلها نحو الجليل وحيفا وما بعد حيفا، تجتمع ذئاب الدنيا على فارس الزمان الوحيد. تقول أخبار المساء إنّ طائرات رمت على مبانٍ في الضاحية الجنوبية لبيروت 83 طنّاً من المتفجرات. يقسم الناس في اليوم التالي إنهم رأوه بأمّ العين يخرج من بين الركام سالماً غانماً لم تتلوث عباءته ولم تخدش عمامته، وإنه مسح على رؤوسهم فالتمع حرز خاتمه، فأصابت أعينهم منه غشاوة وسكرة، وإنه الخضر وقد شرب من ماء الحياة يوزّع على الفقراء زاداً وسيفاً، وإنه المهدي الخارج من السرداب أو جبل رضوى يسقي العشاق من كأسه الأوفى شربةً من عسل وماء لا يعطشون بعدها أبداً.
سيرياهوم نيوز١_الاخبار