تختلف قصة إعادة تشكيل الشرق الأوسط الجديدة الغربية عن سابقتها.
تختلف قصة إعادة تشكيل الشرق الأوسط الجديدة الغربية عن سابقتها.
انتقل العالم في مرحلة جديدة من الصراع الدائر في منطقة إقليم غرب آسيا إلى مرحلة جديدة من التوتر عالي المستوى، بعد أن انتقل التركيز في الحرب الدائرة شرق المتوسط من غزة إلى جنوب لبنان، في ظلّ المزيد من حالات الاستقطاب الدولية الحادة التي قد تدفع الجميع لوضع إصبعهم على الزناد، في صورة أقرب لاندلاع حرب إقليمية كبرى، سرعان ما ستتحوّل إلى حرب عالمية ثالثة، فأيّ دور يقوم به حزب الله في مستقبل الخرائط الدولية؟
قد يكون كلام وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أوضح دليل على حدة الصراع الدولي، فقد وصَّف الصراع الحالي “بالمنافسة الشرسة” على إعادة التشكيل الدولي، تتصدّره كلّ من روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية كتحالف، وهو بهذه الحال يعيد قصة تشكيل الشرق الأوسط الذي يشمل آسيا الوسطى وأفغانستان (وفقاً لتعبير ديڤيد فرومكن في كتابه سلام ما بعده سلام)، الذي كانت ذروته السابقة في نهاية القرن التاسع عشر بعنوان “نهاية اللعبة الكبرى”، في إطار الصراع البريطاني الفرنسي الروسي، والذي دفع بكيتشنر للتخلّي عن الحفاظ على الإمبراطورية العثمانية وتحطيم المنطقة، وبناء تحالفات مع الدول العربية والإسلامية، وتوطين اليهود في فلسطين كحاجز، وكل ذلك ضمن استراتيجية مواجهة روسيا القيصرية، تبحث عن الوصول للهند والمياه الدافئة شرق المتوسط.
تختلف قصة إعادة تشكيل الشرق الأوسط الجديدة الغربية عن سابقتها باعتمادها على التشكيلات المسلحة بالعنوان الإسلامي بديلاً عن التشكيلات القومية، ففي السابق تمّ الاعتماد على وعود إقامة الدولة العربية، بينما اعتمدت الخطة الجديدة على تشكيلات إسلامية لها جذور ثأرية مع الأنظمة السياسية في الشاطئين الجنوبي والشرقي من البحر الأبيض المتوسط، وكلا الأمرين كانا يقادان بشكل مباشر في القصة الأولى وبشكل غير مباشر في القصة الثانية بأجهزة استخبارات غربية بريطانية ثم أميركية.
الاختلاف الثاني كان بطبيعة الردّ على المشروع الغربي الجديد، الذي بدأ بحركات إسلامية مقاومة تمتلك الوعي الكامل لطبيعة المشروع الغربي، بتحدٍ واضح لمسار ترسيخ بقاء الكيان الصهيوني بشكل دائم في المنطقة، بإيقاف عملية تظهير العلاقات العربية الإسرائيلية بعنوان التطبيع، وهذا ما قامت به حركة حماس ومعها حركة الجهاد الإسلامي يوم السابع من أكتوبر العام الماضي، وتبعها حزب الله في اليوم التالي بتبنّيه لعملية إسناد مقاومة غزة في مسار معركة استنزاف طويلة، ثم بقيّة حركات المقاومة في اليمن والعراق، ومن خلفها إيران بشكل ظاهر، وسوريا بشكل صامت نتيجةً لظروف حربها الطويلة وما وصلت إليه من حالة تضعضع بقواها العسكرية والاقتصادية والاجتماعية.
الاختلاف الثالث مرتبط بتغير البيئة الإقليمية، وظهور قوى جديدة لم يكن لبعضها دور في القصة السابقة، فقد ظهرت إيران كبديل عن الدولة العثمانية كقوة إقليمية فاعلة وصاعدة في منطقة غرب آسيا، في مواجهة الغرب من بوابة الصراع مع الكيان الصهيوني الذي يعدّ بمثابة مؤشر مهم على قدرات الغرب على استمرار الإمساك بالقرار العالمي، بينما كانت القوة الإقليمية للدولة العثمانية في مرحلة الانهيار ما قبل الموت، مما أتاح لبريطانيا فرصة سهلة لتغيير خارطة الشرق الأوسط.
وبالإضافة إلى إيران هناك تركيا القلقة من نتائج الحرب المستمرة في غزة، وقد ازداد قلقها بعد محاولات “الجيش” الصهيوني التوغّل إلى كامل المنطقة عبر بوابة جنوب لبنان، فقد أيقن الساسة الأتراك المخاطر على تركيا من جراء إمكانية نجاح الكيان في اختراق الجنوب، وهذا ما عبَّر عنه الرئيس السابق لتحرير جريدة يني شفق التركية إبراهيم قراغول وهو المقرّب من الرئيس التركي إردوغان، محذراً من سقوط تركيا تحت مقصلة التقسيم، وهذا ما دفع بزعيم الحركة القومية المتشدّد تجاه كرد تركيا دولت بهجلي، للمبادرة بمصافحة ثلاثة من قياديي حزب المساواة وديمقراطية الشعوب البرلمانيين، وخاطبهم “ندافع عن السلام في العالم فلمَ لا ندافع عن السلام في بلدنا؟”، في إشارة واضحة لاستشعار المخاطر المقبلة التي تحدّث عنها الرئيس التركي بأن أنطاكيا لا تبعد عن حدود لبنان أكثر من مئة كم بقليل.
الاختلاف الرابع له علاقة غير مباشرة بتغير البيئة الدولية، وظهور أول دور للصين خارج حدودها بكلّ تاريخها الإمبراطوري، اعتماداً على سياسات هادئة لتظهير قوة التحوّل الداخلي المتصاعد بمشاريع تمدّد اقتصادي يتيح لها دوراً أساسياً في التخلّص من النظام الدولي الحالي، الذي أصبح خطراً على مستقبل البشرية، وبالإضافة إليها عادت روسيا من جديد إلى الساحة الدولية، وبدأت بالتخلّص من حسابات إمكانية الشراكة مع الغرب، وخاصة بعد حربها في أوكرانيا مع النظام الغربي، والتصاقها بالشراكة الاستراتيجية مع الصين وكوريا الشمالية، ومع إيران إلى حد كبير لحين توقيع اتفاق الشراكة الاستراتيجية الجديد.
من هنا تأتي أهمية ما يحصل في جنوب لبنان والدور المحوري الذي يقوم به حزب الله، فهو على الرغم من انطلاقه بعملية التصدّي لـ “الجيش” الصهيوني، من مرتكزات شرعية دينية دافعة للعمل المقاوم، فإنه من حيث النتيجة يقوم بدور خط الدفاع الأول عن كل القوى الوطنية اللبنانية وحتى غير الوطنية التي لا تدرك ما يحاك للبنان وذهبت بعيداً بعمالتها للكيان والولايات المتحدة، ويدافع عن سوريا بشكل مباشر، وعن القوى الإقليمية والدولية الناهضة، وهذا ما تدركه كل هذه القوى.
تحوّلت رهانات القوى الإقليمية والدولية الناهضة لمنع انفجار حرب إقليمية على حزب الله مباشرةً، باعتبار أن المقاومة في غزة أدَّت وما زالت دوراً أكبر بكثير من المتوقّع وهي المحاصرة من الجهات الخمس، ولكن الآن اختلف الأمر بعد استشهاد السيد حسن نصر الله وغالبية قيادات الصفين الأول والثاني من الحزب، الذي أثار قلقاً كبيراً خشية انهيار منظومة المقاومة، وإمكانية نجاح “جيش” الكيان باختراق لبنان، الذي سيعاد من خلاله تشكيل شرق أوسط جديد، لكن الحزب استطاع من جديد إعادة بناء وحدة القيادة والسيطرة من جديد، ليؤكد من خلال قدراته العسكرية المستمرة، بإثبات قدرته المتصاعدة، دوره كلاعب أساسي في قصة جديدة لإعادة تشكيل شرق أوسط جديد في منطقة غرب آسيا تُنهي مفاعيل القصة القديمة، ولكن لصالح جميع الشعوب.
سيرياهوم نيوز١_الميادين