بقلم د. حسن أحمد حسن
من حق كل إنسان تجري في عروقه الدماء أن يغضب لكل ما يستخف بإنسانية الإنسان، ومن واجبه أن يعبر عن غضبه عندما يرى بأم العين كيف تُنْحَرُ الإنسانية على مدار الساعة أمام بصر العالم بلا خجل ولا وازع من ضمير، بل بكثير من التشفي والتبجح الذي يتحدى به القتلة المجرمون الكون مطمئنين إلى عجز البشرية عن مساءلتهم، ليس لقناعة العاجزين بالإجرام ونزعة القتل المتأصلة لدى قتلة الأنبياء والمرسلين، ولا استهانة بالدم المسفوح ظلماً وعدواناً، بل خوفاً من حماقة الكاوبوي وتفجُّر عًقَدِ النقص المتأصلة في تكوينه وشخصيته منذ أن تعرف العالم على ثقافة “رعاة البقر” التي يتفاخر بها أنصار النيوليبرالية، ويبدو أنه طاب لأولئك الاستمتاع بنزعة القتل وسفك الدماء التي تتضخم أكثر فأكثر مع كل جولة جديدة من الحروب المفتعلة لترويض البشرية وإخضاعها لمشيئة نزوة الإبادة وإرغام الكون على التعامل معها وكأنها ظاهرة طبيعية متكررة، وعلى الجميع أن يخشوا غضب الوحش الأكبر وزمجرة كل ما حوله وفي أدغال غابته القذرة من كلاب مسعورة عاشت عقوداً على السكر بالدماء وتبادل قرع الأنخاب بالتوازي مع زيادة إزهاق أرواح الضحايا وتحدي الكون في تخفيف غزارة شلالات الدم المهدور على مسارح العصرنة المزيفة والحضارة المشوهة وقد شُنِقَتْ بربطات عنقٍ مزخرفة ومصبوغة بدماء الأبرياء وهم يستصرخون الضمير الإنساني العالمي ولا مجيب، فذاك الضمير تم حقن أوردته بمخدر يُفْقِدُهُ القدرة على استعادة الإنعاش الذاتي، ويطيب لمن كانوا يحملونه يوماً هذا الوضع الجديد لأنه يريحهم من تحمل المسؤولية والشعور بالذنب جراء التقاعس أو الانكفاء…
يحترق اللحم الفلسطيني أمام بصر العالم وسمعه وكأن شيئاً لم يحدث البتة… تستغيث النسوة والأطفال والعجائز في خيمهم المهترئة المنصوبة في العراء، فيغاثون بنيران جيش الاحتلال الإسرائيلي التي تشوي تلك الأجساد بلا شفقة أو رحمة، وإذا كتبت النجاة لمقطع بالصوت والصورة وشق طريقه عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى الرأي العام العالمي فأقصى درجات الاستجابة تكاد تقتصر على تصريحات كلامية وإدانات جوفاء تذكّر بمعاني الغيرة وإغاثة الملهوف ونصرة المظلومين كما هو شأن الفطرة السليمة للبشرية الموغلة في التاريخ، ولكن سرعان ما تنتهي أمواج مثل هذا الوضع المستجد إلى سراب، لتضيف خيبة أمل جديدة للمتابع العادي المتعاطف الذي حسب وظن ـــ وبعض الظن إثم ـــ أن الإجرام المرتكب والمجازر والإبادة الجماعية ستغير معالم الكون، وستشكل ردة فعل تضع حداً فاصلاً في التاريخ، لكن ما يحدث على أرض الواقع ينبئ بانخفاض تلك الأصوات تدريجياً قبل تلاشيها في طبقات الجو لتصعد مع الأرواح المقتولة إلى بارئها، ولذا تمشي الجموع المقهورة القهقرى عندما ترى أن تمثال الحرية المنتصب في نيويورك مزداناً بربطات العنق المذكورة وهي تقطر دماءً بريئة مسفوحة على مدار الساعة…
وهكذا تتكرر فصول التراجيديا الإنسانية، ويتكرر معها إدمان التعايش مع العجز طالما أن حراب القتلة لا تستثني من شرورها قوات الطوارئ الدولية، ولا المنظمات الإنسانية التابعة لهيئة الأمم المتحدة شريطة أن يكون الفاعل طرف بعينه، وأن يبقى الفعل وارتكاب الجريمة محصوراً بقادة تل أبيب، حيث تمتد اليد التي تضغط على زر إطلاق الصواريخ والقنابل الحارقة فتصل إلى واشنطن وتعود بالمزيد من أسلحة التدمير الشامل، وأحدث ما ينتجه المجمع الصناعي الحربي الأمريكي من أسلحة فتاكة وذات طاقة تدميرية تتجاوز حدود الوصف، ولا ينسى أولئك أن يوجهوا طائرات الشحن العملاقة للمرور فوق تمثال الحرية وأخذ التبريكات التي بها تكتمل فصول الإبادة الجماعية، وما على العالم إلا جلوس القرفصاء والاكتفاء بمتابعة تفحُّم ما تبقى من طفولة وإنسانية تَيَتَّمَتْ بفعل حق القوة المتكفلة بالقضاء على قوة الحق…
على الرغم من سوداوية الصورة والمشهد يبقى الأمل بعشاق الكرامة المستعدين للتضحية بكل ما لديهم في سبيل الدفاع عن الحق في الحياة، والدفاع بما تيسر من وسائل وإمكانيات، وهي على ندرتها معقد الأمل وموئل الرجاء في إعادة العفريت إلى قمقه، وإن طال أمد العبثية والقتل المجاني وحروب الإبادة التي يتم تسويقها تحت عناوين مختلفة، وليس أمام عشاق النور والضياء إلا مواجهة تلك الوحوش المسعورة بإرادة ويقين بالحق في الحياة والقدرة على الدفاع عن هذا الحق مهما ازدادت غزارة الدم المسفوح ظلماً وعدواناً، ومهما طال زمن المواجهة والصراع، فالأرض تتعاطف مع أبنائها الذين يتحولون إلى جزء بنيوي في صخورها وجبالها ووديانها وثراها ورمالها وهوائها وكل مكوناتها، وطبيعة الأرض الطاهرة أنها تلفظ العتاة المتجبرين والقتلة المجرمين فتغشي وجوههم بلعنة الإنسانية، وتقذف بهم إلى مزابل التاريخ.
(موقع سيرياهوم نيوز-1)