ماجد نعمة
إذا كانت نكبة 1948 حاضرة في الكثير من الأدبيات السياسية والإعلامية التي رافقت «طوفان الأقصى»، فاللافت أن حرب السادس من أكتوبر 1973، التي كانت أول هزيمة عسكرية قاصمة للمشروع الصهيوني التوسعي، والتي دمرت أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر (أسطورة روّجت لها الماكينة الإعلامية الغربية بعد نكسة حزيران 1967 وصدّقتها وتبنّتها بعض النخب السياسية العربية المتغربة)، لم تحتل الحيّز التحليلي الإستراتيجي والتاريخي الذي تستحقه. وسواء كانت المقاومة الفلسطينية في غزة قد اختارت يوم السابع من أكتوبرلإطلاق «طوفان الأقصى»، أي بعد الانتهاء مباشرة من احتفال كل من مصر وسوريا بالذكرى الواحدة والخمسين لحرب السادس من أكتوبر 1973، مجرّد صدفة فرضتها الاعتداءات والاقتحامات المتكررة للمستوطنين اليهود الفاشيين لباحات المسجد الأقصى والتي تجاوزت في الأيام الأربعة السابقة نحو 4600 مستوطن بتشجيع علني من حكومة نتنياهو الفاشية، أم إنه كان قراراً مدروساً، فتوقيت «الطوفان» جاء ليذكر بدروس هذه الحرب التي حوّلها أنور السادات من انتصار عسكري باهر إلى نكسة إستراتيجية كان ثمنها انسحاب مصر من الصراع العربي الصهيوني بأبخس الأثمان وتحويلها من لاعب أساسي في لعبة الأمم إلى دولة تابعة تحرس المصالح الأميركية والإسرائيلية مقابل الحفاظ على أمن نظامها وفتات من المساعدات تقتاتها على الموائد الخليجية. وما زال العالم العربي يدفع حتى الآن ثمن هذه السياسة الخرقاء التي انتهجها أنور السادات وحلفاؤه بعد عام 1973 والقائمة على فرضية أن الولايات المتحدة تمتلك 99٪ من الأوراق في المنطقة والعالم.
هذه العبودية الطوعية، أو المختارة، على حد تعبير الكاتب الأرستقراطي الفرنسي إيتيان دو لا بويسيه في كتابه الشهير الذي يحمل العنوان نفسه، والذي نشره منذ خمسة قرون، هي «أسوأ أنواع العبوديات». ذلك أن انقلاب السادات على الناصرية قاده إلى رحلة الاستسلام المشؤومة إلى إسرائيل النازية تحت حكم مناحيم بيغن وشامير وشارون ثم إلى كامب ديفيد الذي أعطى الكيان الصهيوني والولايات المتحدة إمكانية الاستفراد بكل الدول العربية الواحدة تلو الأخرى. إذ لم تكن قد مضت على زيارة السادات للكيان الصهيوني أشهر معدودة (19 نوفمبر تشرين الأول 1977) حتى شنت إسرائيل في مارس/ آذار 1978 أولى حروبها ضد لبنان والمقاومة الفلسطينية، واحتلت شريطاً حدودياً امتد حتى نهر الليطاني وأقامت فيه منطقة عازلة بالاعتماد على ميليشيات طائفية من العملاء. ورغم هذا الاحتلال الجديد لأرض عربية جديدة، فقد أمعن نظام السادات في الارتماء في حضن الولايات المتحدة وإسرائيل وتوّج ذلك بتوقيع سلسلة من التفاهمات والاتفاقات توّجت يوم 26 مارس/ آذار 1979 بالتوقيع في البيت الأبيض على اتفاقية سلام منفرد مع إسرائيل كانت نتيجتها المباشرة إخراج مصر من الصراع العربي الإسرائيلي وطعن سوريا، الشريك الأساسي في صنع انتصار حرب تشرين الثاني /أكتوبر، في الظهر، والأهم من كل ذلك، التخلي عن حقوق الشعب الفلسطيني وتركه فريسة لسياسة إسرائيلية فاشية توسعية استيطانية.
من كامب ديفيد إلى احتلال بيروت
ولم يكد حبر معاهدة كامب ديفيد يجف حتى وسّعت إسرائيل من احتلالها لجنوب لبنان، فشنّت في السادس من حزيران/ يونيو 1982 عملية اجتياح خاطفة تمكّنت على إثرها من احتلال بيروت وإخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان وكذلك قوات الردع السورية من قسم من الأراضي اللبنانية وفرض انتخاب عميلها بشير الجميل رئيساً للجمهورية. كل هذا بتواطؤ من الولايات المتحدة وصمت مصر وبعض الدول العربية.
ولكن سرعان ما انقلبت هذه الحرب على صانعيها أمام ولادة مقاومة لبنانية دشّنت ولادتها بعدة عمليات قاصمة وجّهتها للإسرائيلي صباح 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 1982 لمقرّ الاحتلال الإسرائيلي في صور ناسفة مبنى الحكم العسكري الإسرائيلي في صور الذي سوته أرضاً، ما أسفرعن مقتل ما يزيد عن مئة جندي وضابط من القوات المحتلة. وبعد عام على هذه الضربة، هاجمت المقاومة في 4/11/1983 مقر الاستخبارات الإسرائيلية في صور موقعة 29 قتيلاً من عناصرها.
ولم يكن مصير القوات الأميركية والفرنسية المتواطئة مع الغزو الإسرائيلي مختلفاً، والتي أرسلت إلى لبنان بذريعة حماية المدنيين اللبنانيين والفلسطينيين المحاصرين في بيروت وضمان عدم دخول الإسرائيليين وعملائهم من القوات اللبنانية إلى المخيمات المنزوعة السلاح بعد مغادرة القوات الفلسطينية والسورية بيروت. وبالفعل، جاءت هذه القوات المتعددة الجنسيات إلى لبنان في 21 آب/ أغسطس 1982 وانسحبت منه في الرابع من أيلول/ سبتمبر من العام نفسه الذي اغتيل فيه بشير جميل ومن دون أن تشترط انسحاب الغزاة الإسرائيليين من لبنان. وبعد اغتيال بشير الجميل، الذي انتخب رئيساً للجمهورية تحت الحراب الإسرائيلية والغربية الأطلسية، انتهكت إسرائيل «الضمانات» التي كان المبعوث الأميركي فيليب قد قدّمها إلى منظمة التحرير وإلى الحركة الوطنية اللبنانية بعدم احتلال بيروت والمخيمات الفلسطينية، فدخل الجيش الإسرائيلي في اليوم التالي بيروت الغربية ثم ارتكب مجازر مروعة في مخيمي صبرا وشاتيلا بين 15 و18 أيلول/ سبتمبربمشاركة ميليشيات مسلحة منبثقة عن حزب الكتائب وسمّيت فيما بعد «القوات اللبنانية». وأمام هول المجزرة، عادت القوات الأطلسية نفسها ولكن تحت مسمى جديد هو «القوات المتعددة الجنسيات للأمن».
لبنان المقاوم
ولكن المقاومة الجديدة، لم تستسغ خيانة الولايات المتحدة وشريكتها فرنسا لتعهداتهما بسماحهما لإسرائيل وعملائها باستباحة بيروت والمخيمات المنزوعة السلاح، فكانت لهما هذه المرة بالمرصاد. ففي 23 أكتوبر/ تشرين الأول 1983، فجّر المقاومون اللبنانيون في يوم واحد وعلى مسافة زمنية قاعدة المارينز قرب المطار ومقر القوات الفرنسية في بناية الدراكار، والتي كانت مقراً للمخابرات السورية في بيروت. وقد أسفرت العمليتان الانتحاريتان عن مقتل 243 عسكرياً أميركياً و58 عسكرياً فرنسياً، ما أجبر هذه القوات الأطلسية على الانسحاب السريع من لبنان. أمّا القوات الإسرائيلية الغازية، فقد أرغمت هي الأخرى على الانسحاب، تلاحقها ضربات المقاومة، إلى ما وراء الليطاني. واستمرت عمليات المقاومة الوطنية اللبنانية بأطيافها كافة، مدعومة من سوريا وإيران، باستنزاف الاحتلال الإسرائيلي وعملائه في الجنوب إلى أن اضطر إيهود باراك، رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي آنذاك، إلى الاعتراف بالهزيمة في 25 أيار/مايو 2000 والانسحاب من دون قيد أو شرط من لبنان باستثناء شريط حدودي قضمته إسرائيل تدريجياً بعد حرب حزيران يونيو 1967.
وعندما أرادت إسرائيل إعادة عقارب التاريخ إلى الوراء عندما شنت عام 2006 حربها على المقاومة لتحقيق ما عجزت عنه في حرب 1982، أي فرض نظام عميل في لبنان كجزء من المشروع الأميركي لتشكيل شرق أوسط جديد، منيت مرة أخرى بفشل ذريع. كان هذا حدثاً مفصلياً في الصراع العربي الإسرائيلي، فللمرة الأولى يثبت لبنان المقاوم، وهو الذي كانت نخبه الحاكمة تتغنى بأن «قوته في ضعفه» وبأنه «دولة مساندة لا مواجهة»، أن التنازلات المجانية من كامب ديفيد إلى وادي عربة مروراً بأوسلو وتحالف أبراهام، ليست الحل.
المقاومة اللبنانية المسلحة ورديفتها الفلسطينية أجهزتا على سياسة العبودية الطوعية التي اتبعتها الأنظمة العربية منذ غياب عبد الناصر وأعادتا الاعتبار لنصيحة عبد الناصر للفلسطينيين: «ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة».
عودة روسيا
اليوم، وفي ظل الحرب الباردة الجديدة التي أعلنها بوتين في خطابه التاريخي أمام مؤتمر ميونيخ في العاشر من شباط/ فبراير2007 متّهماً الولايات المتحدة بـ«الهيمنة الاحتكارية على العلاقات الدولية»، و«الاستخدام المفرط للقوة في العلاقات الدولية من دون قيود تقريباً»، يلاحظ الرئيس الروسي: «استخداماً مفرطاً وجامحاً للقوة العسكرية في الشؤون الدولية. تلك القوة التي تفضي بالعالم إلى بوتقة النزاعات الدائمة، البلد تلو الآخر. وبالنتيجة، لا تكفي القوة لحل كامل لأي واحد منها. ويصبح حلها السياسي مستحيلاً. نحن نلاحظ أكثر فأكثر استخفافاً بمبادئ القانون الدولي الأساسية. وأكثر من ذلك، وفي حقيقة الأمر، إن كل نظام تشريعات إحدى الدول، وهي بالطبع الولايات المتحدة، قد تخطى حدودها الوطنية في كل المجالات: في الاقتصاد والسياسة والحقل الإنساني، ويُفرض على الدول الأخرى. من سيعجبه ذلك؟ كثيراً ما أصبحنا نصادف في القضايا الدولية السعي إلى حل هذه القضية أو تلك انطلاقاً مما يسمى الجدوى السياسية المبنية على المنفعة السياسية الآنية، وهذا بالطبع فائق الخطورة، ويؤدي إلى ألّا يشعر أحد بالأمان. أود التشديد على ذلك، لا يشعر أحد بالأمان. لأنه لم يعد باستطاعة أحد الالتجاء إلى القانون الدولي والاحتماء به كحائط صخري. وتعتبر هذه السياسة محفّزاً لسباق التسلح».
جاء هذا الخطاب بعد سلسلة طويلة من الخطوات الاستفزازية الأطلسية ضد روسيا، بدءاً بحرب البلقان وانتهاء بحرب أوكرانيا مروراً بضمّ جميع دول حلف وارسو إلى الحلف الأطلسي خلافاً للتعهّدات الشفهية والمكتوبة بين موسكو وواشنطن عند تفكيك الاتحاد عام 1991 وبالثورات الملونة في محيطها القريب (جورجيا وقرغيزيا وأرمينيا…إلخ) وبالتنكّر للاتفاقيات الإستراتيجية بين البلدين أو عدم تجديدها ومنها انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة السماوات المفتوحة ناهيك بالتدخّل السافر في الشؤون الداخلية الروسية وفرض عقوبات اقتصادية متعاظمة عليها منذ عام 2014. في عام 2011، مع تدخّل الحلف الأطلسي في ليبيا وقلب نظام الحكم فيها متذرّعاً بالقرار 1973 المبهم لمجلس الأمن الدولي والذي تم تمريره بسبب عدم استعمال روسيا (والصين) لحق النقض، كان بوتين رئيساً للوزراء آنذاك، وكان يستعدّ للانتخابات الرئاسية التي ستجري عام 2012. وفي 21 آذار/ مارس 2011، قام بوتين بزيارة لمصنع أسلحة في سيبيريا فانتقد بحدة الرئيس مدفيديف لعدم استعماله حق الفيتو ضد هذا القرار: «أعتقد أن هذا القرار يذكّرنا بالحروب الصليبية في العصور الوسطى ويمكننا أن نشعر بالقلق إزاء التسرّع والخفة اللذين اتخذ بهما قرار استخدام القوة وكل ذلك تحت ذريعة حماية المدنيين (…) لا أرى أي منطق ولا ضمير في طريقة التصرّف هذه. في عهد كلينتون، قصفت الولايات المتحدة يوغوسلافيا، وفي عهد بوش احتلت العراق، والآن جاء الدور على ليبيا. ولدي انطباع بأن هذا الاتجاه ثابت في سياستهم الخارجية. وفي هذا السياق، من واجب روسيا تعزيز قدراتها الدفاعية وقرّرنا مضاعفة إنتاجنا الصاروخي».
بعد أشهر، عندما أرادت الدول الغربية تمرير قرار مماثل للقرار الليبي، عمدت روسيا والصين إلى استخدامهما حق النقض ضده. وتكرّر هذا الأمر فيما بعد أكثر من 17 مرة. مع هذا الاستخدام، انتهت عملياً الهيمنة الأميركية على مجلس الأمن وتخلّت روسيا والصين عن سياسة النأي بالنفس لمصلحة الغرب وبدأ التحوّل نحو نظام دولي جديد. تحوّلٌ جاء متأخراً، إذ لو استخدمت هاتان الدولتان حقّهما الطبيعي في منع الغرب الجماعي من تنفيذ سياسته التدميرية في المنطقة العربية والإسلامية عموماً ولبنان خصوصاً، لتمّ تجنّب عدد من الأزمات المدمّرة. هذا ما جرى بالضبط مع القرار 1559 الذي قدمته فرنسا والولايات المتحدة وتم تبنيه بتسعة أصوات وامتناع ست دول، هي روسيا والصين والجزائر والبرازيل وباكستان والفليبين، اعتبرته «تدخّلاً في الشؤون الداخلية» لبلد مستقل. وقد تم فرض هذا القرار الموجّه بالأساس ضد سوريا والمقاومة اللبنانية من دون موافقة الحكومة الشرعية في لبنان.
الشرق الأوسط الجديد
ففي الوقت الذي يطالب فيه «جميع القوات الأجنبية المتبقية بالانسحاب من لبنان» (أي القوات السورية) وإلى «حل جميع الميليشيات اللبنانية ونزع سلاحها» (أي المقاومة اللبنانية)، يتجاهل هذا القرار تماماً الاحتلال الإسرائيلي. ولعل أوضح من انتقد هذا القرار كان المؤرخ والسياسي والاقتصادي اللبناني الكبير جورج قرم الذي اتهم الديبلوماسية الفرنسية، في مجلة «لوموند ديبلوماتيك»، بـ«العمى الذي لا مثيل له في مبادرتها لاستصدار قرار أخرق كهذا من مجلس الأمن». وأردف موضحاً: «لا شك أن فرنسا كانت تسعى إلى التصالح مع الولايات المتحدة بعد خصامها معها حول الحرب في العراق ولكنها في المقابل زعزعت استقرار لبنان بشكل خطير بإعادته إلى ما كان عليه بين عامَي 1975 و1990: ساحة مواجهة بين كل القوى المتخاصمة في الشرق الأوسط».
ما زال المشروع الغربي، على الأقل منذ تحرير لبنان عام 2000، من دون أية تنازلات أو اتفاقيات تطبيع، هو نفسه: إعادة تشكيل الشرق الأوسط الكبير وتثبيت المشروع الاستيطاني الصهيوني من دون مقابل. أي التطبيع مقابل التطبيع
في الواقع، ما زال المشروع الغربي، على الأقل منذ تحرير لبنان عام 2000، من دون أية تنازلات أو اتفاقيات تطبيع، هو نفسه: إعادة تشكيل الشرق الأوسط الكبير وتثبيت المشروع الاستيطاني الصهيوني من دون مقابل. أي التطبيع مقابل التطبيع. ولكن حرب 2006 ألحقت هزيمة كبرى بهذا المشروع من دون أن تجهز عليه نهائياً. وأعادت الولايات المتحدة وشركاؤها وأتباعها الكَرّة مع «الربيع العربي» ولكنها باءت مرة أخرى بالفشل. وبدل أن تستخلص العبر من هذه التجارب الفاشلة، أخذت تركز على إنهاك المشروع المقابل المتمثل بما بات يعرف بمحور المقاومة ومحاصرته تمهيداً للقضاء عليه ولكن أيضاً من دون جدوى. فالعقوبات والمناوشات وافتعال الفتن وزعزعة الاستقرار وتصدير الثورات الملونة وزيادة عدد المطبعين العرب مع إسرائيل، ابتداء من مصر والأردن وانتهاء بالإمارات والبحرين والمغرب والسودان، أدت إلى نتائج عكسية. فابتداء من عام 2018 بدأت إيران تتكيف مع العقوبات الأميركية القصوى التي فرضتها إدارة ترامب ثم تتجاوزها عملياً. ومع دخول الجيش الروسي إلى الدونباس في 24 شباط/ فبراير 2022 نشأ حلف إستراتيجي بين إيران وروسيا وتبعته مصالحة تاريخية بين إيران والمملكة السعودية الساعية إلى الخروج من المستنقع اليمني. ولتكتمل الصورة، كان الغرب الجماعي قد بدأ يعي أنه على وشك خسارة حربه ضد روسيا في أوكرانيا، ما ينذر بتغيير جذري في نظام الهيمنة الأميركي في العالم.
الطوفان الذي غيّر العالم
هكذا كان واقع العلاقات الدولية عندما حطّم مقاتلو حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين السور الإسرائيلي الكبير الذي كان يُطْبِق بوحشية على سكان غزة منذ عام 2007 في عملية «طوفان الأقصى» التي صعقت الغرب الجماعي الذي هرول بنوع من الهستيريا لإنقاذ إسرائيل ودعمها تسليحياً واقتصادياً وإعلامياً. فرأينا كل زعماء الغرب يتوافدون إلى الكيان الصهيوني لتقديم عصا الطاعة لزعمائه العنصريين والفاشيين ولكيل الشتائم لحماس كحركة «إرهابية نازية». سلوك لم يسبق للغرب أن انتهجه في الماضي. ففي حرب السادس من أكتوبر وما رافقها من «صدمة نفطية» كان هناك نوع من التحفظ ومن التظاهر بالسعي إلى حل سياسي للصراع العربي الإسرائيلي. كان النظام العالمي المنبثق عن الحرب العالمية الثانية وصفقة يالطا ما زال مضبوطاً بالقطبية الثنائية والردع المتبادل ومحكوماً بنخب سياسية أقل تفاهة من نخب اليوم. لذلك، فقد سارع مجلس الأمن في 22 أكتوبر 1973 إلى تبني القرار رقم 338 القاضي بوقف فوري لإطلاق النار. كانت الديبلوماسية الأميركية بقيادة كسينجر، رغم انحيازها إلى إسرائيل، تحاول التظاهر بالحد الأدنى من الحياد بين الطرفين، في حين أن الإدارات الأميركية، خاصة منذ بوش الابن وسيطرة المحافظين الجدد، من جمهوريين وديموقراطيين، على الحكم، أصبحت لا تتوانى عن إعلان تأييدها المطلق للسياسة الإسرائيلية حتى ولو كان ذلك يخالف التزاماتها الدولية وقرارات مجلس الأمن التي صاغتها ووافقت عليها مثل الموقف من القدس والاستيطان والاعتراف بضم الجولان إلى إسرائيل.
نهاية أسطورة
والواقع أن انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 جعل الغرب يتصرف كمنتصر وكلاعب أوحد في الساحة الدولية ويطلق العنان لإسرائيل في العربدة كما تشاء معتبراً القضية الفلسطينية قد أصبحت من ذكريات الماضي وأن على الدول العربية أن تطبع مع إسرائيل من دون قيد أو شرط إذا أرادت أن تأمن شرّ الولايات المتحدة. وكانت هذه السياسة مفروضة بطبيعة الحال على الدول الأوربية التي لم تعد تخفي تفضيلها المطلق للعلاقات مع إسرائيل. وعلى سبيل المثال، عندما انتخب ساركوزي رئيساً لفرنسا استدعى السفراء العرب المعتمدين في فرنسا ليتفاخر أمامهم بصداقته مع إسرائيل! ولم يكن الرئيس الحالي ماكرون بأقل صهيونية من سلفه الأسبق، فأعلن عن نيته تجريم مناهضة الصهيونية بصفتها معاداة مُقَنّعة للسامية. إلا أنه لم يجرؤ على إصدار قانون يجرّم معاداة الصهيونية لعدّة أسباب ليس أقلّها اعتراض الكثير من الحقوقيين واليهود المعادين للصهيونية على ذلك. وعندما هرول إلى إسرائيل لتقديم الولاء لنتنياهو بعد أيام من «طوفان الأقصى»، لم يتردّد في اقتراح إنشاء تحالف دولي ضد حماس على شاكلة التحالف لمحاربة داعش! اقتراح استقبل بالاستهجان والسخرية. ولكن هذا لم يمنع وزير «العدل» من ملاحقة كل من تسوّل له نفسه اعتبار حماس حركة مقاومة. ولم تتورع أجهزة الأمن من استدعاء عدد من المناضلين وحتى النواب للتحقيق معهم بتهمة تشجيع الإرهاب.
رغم هذه المكارثية والإرهاب الفكري الذي سيطر على الإعلام الفرنسي والأوروبي، فقد رأينا الرأي العام الفرنسي يتعاطف مع الفلسطينيين في غزة والضفة ولبنان أمام مشاهد الإبادة وجرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل التي خسرت معركة الصورة رغم هيمنة الفكر الصهيوني على أجهزة الإعلام الغربي. ولعل إيلي برنافي، وهو مؤرخ وسفير إسرائيلي سابق، قد يكون من أصدق من استنتج هزيمة إسرائيل الإعلامية والسياسية، إذ قال في مقابلة صحافية إن الجيل الأوروبي الجديد لم يعد يصدق الدعاية الإسرائيلية: «إذ عندما نكلمهم عن المحرقة النازية ضد
اليهود، يجيبون: وماذا عن غزة؟»
نقطة أخيرة: من نتائج «طوفان الأقصى» أنه مسح الغبار عن تاريخ إسرائيل الإرهاب الدموي، وعن نكبة 1948. وأبعد من أعاد طرح أسئلة كانت شبه ممنوعة مثل طبيعة المشروع الاستعماري الصهيوني وشرعيته وقدرته على الاستمرارية بشكله الحالي وعن زيف الديموقراطية الإسرائيلية، وأخيراً لا آخر عن الجدوى الإستراتيجية لاستمرار الغرب في الاستثمار في هكذا مشروع، إذ إن إسرائيل كانت في نظر صانعيها هراوة يستعملونها لترويض وإخضاع شعوب المنطقة فأصبحت بحاجة إلى من يحميها، خاصة وأن الحرب اليتيمة التي انتصرت فيها كانت في حزيران/ يونيو 1967. هل يستخلص الغرب الجماعي العبرة من هذا الواقع الجديد ويتخلى تدريجياً عن هذا المشروع؟ وهل يعمل جدياً بنصيحة جورج بول، وكيل وزارة الخارجية الأميركية الأسبق، في مقال نشره في مجلة «فورين أفيرز» عام 1977 ودعا فيه إلى «إنقاذ إسرائيل رغماً عنها»، أم إن ذلك بات مستحيلاً مع وحوش من النوع الذي يحكمون الكيان الصهيوني اليوم؟
من فضائل «طوفان الأقصى» أنه أعاد طرح مثل هذه التساؤلات الإستراتيجية التي كان «الواقعيون» في الشرق والغرب يعتبرونها خارج التداول، على الطاولة من جديد وبإلحاح.
سيرياهوم نيوز١_الأخبار