الكثير من الشعراء قدموا من الريف إلى المدينة وعبَّروا عن حزنهم وألمهم أمامها، إلا الشاعر صقر عليشي جاء مفاخراً أنَّه من الريف، ولم يضع المدينة في المقابل، وإنَّما تحدث عن علاقة خالية من الإحساس الدونية.
استهل الدكتور عاطف بطرس بكلماته القليلة السابقة ميزات أسلوب صقر عليشي أثناء ترؤسه ندوة نظمتها الهيئة العامة السورية للكتاب حول شعر الشاعر صقر عليشي بمناسبة اختياره شاعر الدورة العاشرة ليوم الشعر العربي لعام الحالي من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم الألكسو، ضمن برنامج الفعاليات الثقافية المرافقة لمعرض الكتاب السوري الثالث، في مكتبة الأسد الوطنية، شارك فيها الدكتوران سعد الدين كليب، وائل بركات، والأديب بيان الصفدي.
– البساطة
الدكتور سعد الدين كليب أشار إلى أنَّ شعرية البساطة تستطيع أن تلخص شعره برمته منذ بدء كتابة الشعر وحتى الآن، كونه بسيطاً إلى حدٍّ مدهش وعميق. نظم كلاماً يظن الآخرون أنَّهم قادرون على صياغة أشعار مثله، لأنه يحتوي موسيقا لا يشعر بها إلا الذوَّاق الخبير صاحب الصنعة والمهارة بحيث يستطيع أن يخفي صنعته، إنَّه الفن حين نبني دون أن تظهر على بنائه آثار الصنعة بمهارة عجيبة جداً. يظنه الآخرون كلاماً لكنَّه شعر أخفى صناعته، وإنَّنا أمام البساطة الموحية حتى في الإيقاع، وما يبدو أنَّه يستخدم لغة الناس ليس باللهجة العامية بل باللغة الفصحى.
إنَّ شعر الحداثة برمته يقوم على الصورة المعقدة، والانزياح اللغوي وكلما انزياح الشعر في لغته كان أكثر من الشعرية في التعبير ومال إلى تطعيم التراكيب بالإيحاءات من دون أن يميل كثيراً في الانزياحات اللغوية، لأنه يراها معادلة مهمة، إضافة إلى أنه خطَّ طريقاً خاصاً بالبساطة من دون تعقيد وأظهر البراعة من دون انزياحات لغوية، فاستطاع الائتلاف مع الذوق العام وتفرَّد عنه في الوقت نفسه.
لم يتنكر لريفيته
بينما أوضح الدكتور وائل بركات أنَّ الشاعر صقر مميز بأسلوبه، وكتاباته الشعرية، لذا رصد سيرته الذاتية في ديوانه “أعالي الحنين” كونها لم تكن مطروقة في الشعر على نطاق واسع، بل استطاع دخول المغامرة بديوانه فبدت ملامح سيرته الذاتية مع إعلان ولادته عندما قال:”
فِي يَوْمٍ مَا
مِنْ أَيّامِ القَرنِ العِشْرِينْ
فِي العامِ السّابِعِ والخَمْسِينْ
وُلدْتُ
كشف عن ولادته البكر وحياته في بيت يحتضن الشعر، فتميز بمفرداته البسيطة والموحية فأنشد:
وَكَانَتْ رُوحِي في طَبْعَتِها الأُولَى
فِي بَيْتٍ يُشْرِفُ منْ كُلّ نواحِيهِ
عَلَى الشّعْرِ
وَقَدْ أَرْكَزَهُ الوَالدُ
تَحْتَ الغَيْمِ قَليِلا
في العامِ السّابع والخمسينْ
أَعْلَنْتُ مجيئِي
وَصَرَخْتُ صُرَاخاً مَقْبُولا
كما تحدث عن التربية والتعليم ومجموع الأماكن المحيطة بمنزله والعناوين الدالة على سيرته الذاتية مثل أعلى الحنين من سيرة العاشق” كذلك عرَّج على التعريفات الأولى عندما عرَّف الأشياء الحسّية في مفاتن المرأة فخطَّ طريقاً خاصاً به، دون أن يتناقض مع النموذج لكن لا يلتقي به تماماً.. إنَّه جانب من جوانب شعرية البساطة الموحية حيث يسعى لأبسط شكل بعمق المضمون وقوة الإيحاء. إنه يُمتِّعنا متعة الفن والذكاء الإبداعي، بينما تبعث المفارقة والبهجة في شعره على الابتسامة، كان يتألم ويبتسم لقدرته على الإمساك الطريف المغاير لكن في إطار البسيط المألوف، وهمَّه أن يُقَدِّم الحياة والسعادة، إنَّ شعره كشكله مثل بساطته في حياته اليومية، عميق وموحٍ أما سمة الجمالية فتكون تصويراً للقباحة المنتشرة، يتعامل معها على أنَّها كوميدية من خلال تسخير سيف السخرية لتجعل القارئ يبتسم ويسخر في الوقت ذاته كما مال للشعر الدرامي أو الملحمي مع الالتزام بالغنائية بمقطعاته وملحماته عبر التعبير الغنائي والملحمي.
– عين الكروم باقية..
عرَّف الدكتور وائل بركات الشاعر صقر عليشي بأنه مميَّز بأسلوبه وكتابته الشعرية رغم أنه جاء من الريف إلى المدينة لكنه لم يتنكَّر لريفيته، ثم عرَّج الدكتور بركات على طريقة التعليم في الكتَّاب ليقول لنا كيف تعاطى معها دون أن يغادرها، مقدِّماً صورة عن بلدته عين الكروم ليثبت بأنَّها مازالت كما عهدها جميلة وساحرة.
وذكر الدكتور وائل ملاحظاته على الديوان كون الشاعر عليشي لايروي حكايات وإنَّما يستذكر المفاصل الدالة عن حياته ليقدم هويته من خلال انتمائه سواء أكان في الريف أم المدينة والاحتفاظ بالذاكرة والوقوف عند الأحداث الواقعية والحياتية، كما أنه يستغل الحدث ليحوِّله إلى حكاية شعرية بسيطة، ثم يتحدَّث عن أسرته العصامية المتواضعة، ووالده الكادح.. فأنشد:
وُلِدْتُ لعَائِلَةٍ مُتَوَاضِعَةٍ
لاَ تَمُتّ لِغَيْرِ السّمَا
بِالنّسَبْ
وَالِدِي فِي مناكبها رَاحَ يَسْعَى
وَكَانَ عَلَى الأُمّ جَمْعُ الحَطَب
أيضاً يتوقَّف عند الألم المتعرِّض له، وقت كان طفلاً يركض في الغابات وتجرحه الأشواك والحصى؛ لكنَّ الأسى لا يقارن مع لسع البشر فأنشد:
جَرّحَتْنِي الحَصَى
وَلاَقَى الكَثِيرُ مِنَ الشّوكِ دَرْباً
إِلَى قَدَميَّ
وَكَيْفَ أُقَارِن مَا فَعَل الشّوكُ بِي
بِمَا فَعَلَتْ بَعْدَ ذَاكَ
أَيَادِي البَشَرْ؟
– علامة واضحة
كما لفت الأديب بيان الصفدي إلى أنَّه يُشكِّل ضمن جيله علامة واضحة للشعر في سورية والعرب عامة، إذ مرَّت تجربته بمراحل نضجت بسرعة كبيرة بسبب بدايته الغريبة فاقترب من الإيديولوجيا، وكتب شعراً غريباً وفجَّاً أحياناً، ثم انعطف انعطافة واضحة، وتميَّز بتأمُّل الحياة بشفافية الطفل القروي المبدع الدافئ من خلال تقديم عالم بعيد عن البرود؛ بل نابض بكمِّ الحياة في نصوصه، ولا تعجبه المطولات، وإنَّما يكتب بحجم الدفقة الشعرية، لذا تميَّز باللغة البسيطة الشفافة الحاملة للمتعة، وقصيدة ذكية من حيث احتوائها على مجموعة مكونات في نسيجها، كالصورة والحوار والسخرية والأشياء البسيطة والقفلة المفاجئة والمدهشة للقارئ.
– علامة فارقة..
بدوره رئيس اتحاد الكتَّاب العرب السوريين الدكتور محمد الحوراني بيَّن أنَّنا عندما نتكلَّم عن شاعر مثل صقر عليشي فإنَّنا نتكلَّم عن شاعر كبير ومختلف، لا بل نتحدَّث عن علامة فارقة في المشهد الشعري وهموم المشهد الثقافي والأدبي والإبداعي ليس على مستوى سورية وإنَّما على مستوى الوطن العربي. ربَّما لم يأخذ المكان الواجب أن يحتلَّه في بعض السنوات؛ لكنَّه اليوم بدأ يأخذ شيئاً من حقِّه وإن كان متأخّراً على المستوى السوري والعربي والعالمي. إنَّه ينتمي انتماء حقيقياً للأرض والبيئة، ونتحدث عن شاعر حافظ على هويته بكل تفاصيلها المكانية: العادات، التقاليد، البيئة. كلّه له أسبابه وخصوصيته وأهميّته لأنَّه عندما يُؤرِّخ الشاعر للمكان والعادات والتقاليد ما يعني أنَّه شاعر مختلف ومتميز.