يوسف فارس
غزة | على غير ما تمنّى العدو واشتهى وروّج طوال عام كامل من الحرب، كانت نهاية قائد حركة “حماس”، يحيى السنوار. فاجأهم هذا الرجل في حياته، وخلال اعتقاله، وعقب الإفراج عنه، وحتى في نهايته. ففي وسائل الإعلام العبرية، دار حديث كثير عن الصورة الأخيرة، ثمّ دار جدل أكبر حول المقطع المصوّر الذي نشره جيش الاحتلال. وخلصت التحقيقات إلى أن جنديَّين هما اللذين سرّبا صورة السنوار وهو مسجًى، ومرتدٍ جعبته العسكرية، قبل أن يجبَر الجيش على نشرها. لكن الخطيئة التي استدعت تحويل الجنديين إلى التحقيق، عادت المؤسسة الأمنية بقرار مركزي منها، لتعيد نشر ما هو أهمّ منها: القائد الذي كان يمكن أن يُخرَج مشهد نهايته بأعلى مستويات الإذلال والاستهزاء، قاومهم حينما كان مصاباً بيده وقدمه، بإلقاء قطعة خشب على الطائرة التي جاءت لتحرّي أمره. طبَّق الرجل مبدأ الرفض والمقاومة، ورفض الاستسلام في أشدّ لحظات عمره حساسية وضعفاً. هكذا، كان ندّاً في حياته ومماته.
لقد شحن السنوار المشاعر بفيضٍ هائل من الحماسة والذهول، وحوّل شعور الحزن الحادّ إلى طاقة مقاومة مستدامة، وربّما تتكفّل المشاهد التي سينشرها الإعلام العسكري التابع لـ”كتائب القسام”، في وقت لاحق، للقائد المشتبك الذي يشارك جنوده في الكمائن والمواجهات، بدفق معنويّ آخر، سيَجبر كثيراً من الكسْر الذي تسبَّب به رحيله.
تموت حركات المقاومة وتُهزم الشعوب من خلفها، حين تستسلم وتَقبل الهزيمة، أمّا حينما يُقتل قادتها على هذه الشاكلة، فإن انعكاسات عملية الاغتيال ستكون مغايرة تماماً. ما تقدم، تحدّث عنه المحلّل العسكري لـ”القناة الـ11” العبرية، إليؤور ليفي، بعدما أقرّ بأن الإسرائيليين يواجهون صعوبة في فهم “حماس”، قائلاً: “التوثيق الذي ترونه ليس هو ما تراه حماس أو الجهاد أو حزب الله، إنهم يَرون رجلاً قاتل حتى اللحظة الأخيرة وحتى آخر قطرة من دمه حتى وهو مصاب. لقد أصبح السنوار بالفعل أسطورة وشخصية أكبر بكثير من الشخص نفسه، من الجيد اغتياله، لكن أيّ اغتيال لن يغيّر ذلك حتى الأجيال القادمة”.
في الاشتباه والالتباس نفسه، وقعت المؤسستان الأمنية والسياسية الإسرائيليتان، المزهوّتان بإنجازهما الذي تمّ بمحض الصدفة. يسيء الجميع فهم حركة “حماس”، ويضخّمون حجم ما أحدثوه فيها من ضرر، والأهمّ قدرتها الدائمة على التعافي وترميم الذات. ويَظهر ذلك حينما يحصر العدو، مثلاً، أزمته في أعداد محدّدة من المقاتلين، ستنتهي مشكلته مع القطاع حينما يتم القضاء عليهم. يتحدّث الاحتلال، مثلاً، عن 5000 مقاتل في شمال وادي غزة، وعن بعض المسؤولين البارزين في “القسام”. على أن واقع الحال مغاير تماماً، ليس لجهة الأعداد والمسؤولين الذين يظنّ أنه قتلهم؛ فالواقع أن “حماس” نشأت في أوساط البسطاء، وقدّمت منهجاً دعوياً وحركيّاً انسجم تماماً مع فهم وإدراك السواد الأعظم من المجتمع، واستحوذت، بناءً على ذلك، خلال الـ 40 عاماً الماضية، على مساحة واسعة من القاعدة الاجتماعية الفلسطينية.
يسيء الجميع فهم حركة «حماس»، ويضخّمون حجم ما أحدثوه فيها من ضرر
وعليه، فإن مدادها البشري لا ينحصر بقدر مَن ينتمون إليها وتحصيهم قواعد البيانات الإسرائيلية فقط، إنما في مَن سيبقى مستعداً دائماً للانخراط في المعركة، وهذا ما تظهره العملية البرية المستمرة في شمال القطاع. إذ إن العدو استطاع، خلال الـ20 يوماً الأولى من الحرب، القضاء تماماً على واحدة من أكبر الكتائب العسكرية التابعة لـ”القسام” في شمال غزة، والتي تعرف بـ”الكتيبة الغربية”، وتعمل في مناطق شمال غرب محافظة شمال القطاع، وتحديداً في مدينة بيت لاهيا. هناك، أمكن إحصاء المئات من المقاومين، وقبلاً منهم قادة الكتيبة، الذين أَطبقت عليهم مسارات الأنفاق والمواقع التي كانوا يتحصّنون فيها في انتظار التقدّم البري. ومنذ ذلك الحين، تحوّلت المساحة الجغرافية التي كانت تلك الكتيبة مسؤولة عنها، إلى مساحة سهلة العبور، لا تحتاج آليات العدو إلا بضع دقائق للوصول إلى أعمق نقطة فيها. ولكن، خلال العدوان البري المستمر في الشمال منذ أسبوعين، عادت “الكتيبة الغربية” لتصدر بيانات “القسام”، حيث أحصت “الأخبار”، خلال 14 يوماً من التوغل، أكثر من 18 مهمّة قتالية تحمل بصمات نوعية، مِن مِثل الكمائن واستهداف القوات الخاصة، فضلاً عن المشاغلة بقذائف الهاون وتفجير الآليات. كل ما تقدّم، لا يشير فقط إلى القدرة المستمرة على التعافي وإعادة البناء، وإنّما إلى وجود قيادة مركزية تحدّث تكتيكات القتال وتعمّم أساليب تتناسب مع طبيعة كل مرحلة وما فيها من تحدّيات.
أمّا على صعيد البناء القيادي والقدرة على إدارة المشهد السياسي، فيكفي القول، إن أولى المؤسسات التي بنتها حركة “حماس” حتى قبل الإعلان عن انطلاقتها الرسمية في عام 1987، كانت الجامعة الإسلامية التي أُسّست في عام 1979، ومثّلت، إلى جانب المئات من المساجد والمؤسسات الخيرية، الخزان الذي عمل طوال 40 عاماً على صناعة المخزون البشري، المؤهّل أكاديمياً ونفسياً لتولّي أهمّ المناصب في أصعب الظروف.
مَن يعش في غزة، وعايش هذه الحركة، لا يستغرب ما تقدّمه اليوم من تضحيات وعناد ومكابرة، إنّما سيقف مذهولاً أمام سقف الطموحات العالي الذي يتحدّث به الإسرائيليون والأميركيون.
سيرياهوم نيوز١_الاخبار