كما كان الردّ الإيراني المزلزل رسالةً تكشف عن مدى جاهزية محور المقاومة لكلّ الاحتمالات، جاءت العملية العسكرية السورية في الشمال لتؤكّد استراتيجية سوريا الراسخة في ضرب جميع المشاريع المستجدة الخادمة لمشروع الاحتلال.
لعلّ الكاتب والمفكّر العراقي الرّاحل، هادي العلوي، كان على حقّ، حين قيل له: لماذا لم تنشر كتاباً عن كربلاء حتى الآن، إذ أجاب ما فحواه، إنّ الوقت ما يزال مبكراً جدّاً، للكتابة عن أمرٍ جللٍ كهذا، عن حدثٍ قائم ومستمر ولم تغب آثاره أو تداعياته أو مفاعيله يوماً، رغم مرور أكثر من 1400 عام على وقوعه. ولعلّ مفكّراً آخر، ينتمي إلى المدرسة المسؤولة ذاتها، التي تحترم طريقة تناول وتقديم التاريخ الإنسانيّ وتفاعلاته، قد يتحدّث بعد عقود طويلة، وربما أكثر، عن صعوبة التناول الرصين، أو الوصول إلى خلاصات تتعلّق بحدثٍ كربلائيّ متّصل بشدّة بكربلاء الحُسين، وهو استشهاد السيد حسن نصرالله.
ولأنّ السيّد الجليل، كان ينتظر الشهادة، أقصى أمنياته وأعذبها، ويتوقّعها في كل حين، وحيث أبى الله أنْ يختم فارس مثله مرحلة هامة من مسيرة حضوره الطويل والمتجدّد، على فراشٍ وثير، لذلك يكون الرثاء مؤجّلاً عند الكربلائيين، إلى حين الانتهاء من هذا الاحتفاء العظيم بالحضور الطاغي، الحضور الذي سيجعل جيلاً قادماً، وبعد سنوات طويلة من الآن، يتحدث، بصيغة المضارع، عن “نصر الله”، عن الرجل الذي دانت له اللغة، واستوطن شِعَاب قلوب المظلومين في كلّ مكان، وحاز كل “الأشياء التي لا تُشترى”.
من المفيد أنّ الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى الأعداء والخصوم، وتلك من “كرامات” السيّد النبيل أيضاً، فالنشوة التي شعر بها قادة العدو الصهيونيّ بعد ثبوت نبأ الاستشهاد، سرت بسرعةٍ كبيرة لدى جميع الأدوات والأزلام والواهمين في المنطقة، كل الذين لم يتعلّموا من تاريخ هذه المقاومة، أو يستمعوا جيّداً، ويعوا خطابات السيّد عن الشهادة، شهادة القادة المحتملة في أي لحظة، عن شهادته هو شخصيّاً، وعن حزب الله الذي دأب تقديم قادته على طريق الجهاد والشرف، وعن الأثر العظيم لهذه التضحيات على المقاومين، وعلى من يتسلّم الراية فوراً ومن دون إبطاء.
في سوريا، عبّر الرئيس بشّار الأسد عن حجم الحبّ والأخوّة مع هذا السيّد العظيم، وعن مكانته لدى قيادة البلاد وشعبها المقاوم، وهو الذي لم يكن يخلو خطاب واحد له، من ذكر سوريا ودورها في العمل العربي والإسلامي المقاوم ضد المحتلين.
في المقابل، سرعان ما تلقّفت أدوات الاحتلال في الشمال السوري أطراف تلك النشوة الصهيونية العابرة، وبدأت ببناء الأحلام الواهية عليها، لقد صدّق هؤلاء أن المقاومة انتهت مع استشهاد السيّد نصر الله، وأنّ محور المقاومة برمّته قد بات ضعيفاً، وأنّ ساعات أو أياماً فقط، تفصلهم عن وصول الدبابات الإسرائيلية إلى الجنوب السوريّ، لتحاصر العاصمة دمشق ولبنان معاً، وينتهي كلّ شيء. ولعلّ هؤلاء لم يركنوا إلى أحلام يقظتهم وحسب، بل إنّ وعوداً إسرائيلية قد وصلتهم بالفعل، وطلبت منهم الاستعداد لشنّ هجوم واسع ومتزامن على جميع محاور القتال في الشمال والجنوب. وبدأت التحليلات بالربط بين الأحداث الميدانية في المنطقة كلها، ومن بينها الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الجنوب السوري والعاصمة، وأهدافها التي رأى هؤلاء أنّها تُشكّل فاتحة لعمليّة الانقضاض على سوريا من جميع الجهات، وعلى لبنان من سوريا.
بدأت الدعوات والبيانات تتلاحق في الشمال السوريّ، بل بدأت التحرّكات والحشود باتّجاه أرياف حلب، وتزامنت مع تصريحات تركيّة مرتبكة أو غير واضحة، ختمها الرئيس رجب طيب إردوغان، بالقول إنّ أطماع “إسرائيل” قد تقودها إلى احتلال سوريا، وأنّ تركيا ستدافع عن أمنها القومي في الشمال السوريّ. فأيقنت بعض فصائل الشمال بأنّ واقعاً جديداً سوف يُفرض، وأنّهم أهم أدواته، بل وأوّل الرابحين فيه، وبدأت بالعمل على هذا الأساس.
يؤكّد هذا الأمر، الاعتداء الأخير المتزامن الذي نفّذته قوات الاحتلال الإسرائيلي على مواقع في الساحل السوريّ، والذي شاركت فيه مسيّرات انطلقت من الشمال، وجرى التصدّي لها. ثم الاعتداءات التي بدأت بالتصاعد على بعض مواقع الجيش العربي السوري وبعض القرى والبلدات في أرياف حلب واللاذقية وحماة.
وقبل أنْ تستوعب “غرفة عمليّات الفتح المبين” التابعة لـ “هيئة تحرير الشام” ومتزّعمها أبو محمد الجولاني، واقع الأمر، تحرّكت حشود سورية كبيرة باتّجاه الشمال، كان بعضها قد أنهى عملية عسكرية كبيرة في البادية السورية، مشّطت فيها مناطق واسعة من ريف حمص الشرقيّ، وقضت على مراكز قيادة لتنظيم “داعش” الإرهابي، وقتلت عدداً كبيراً من عناصره. لتبدأ القوات المتمركزة في الريف الحلبي، وقوات التعزيزات الجديدة، بقصف مواقع “هيئة تحرير الشام” وفصائل أخرى متحالفة معها، في جنوب بلدة “دارة عزّة” ومحور “بحفيس ومكلبيس” غربيّ حلب، ومواقع وتجمعات عسكرية أخرى في محيط بلدتي “كفرتعال” و”كفرنوران”، وكذلك في محيط قرية “كنصفرة” في ريف إدلب الشرقي.
وسرعان ما استدعت أجهزة الأمن التركية قيادات تلك الفصائل، وأبلغتهم بوضوح أنّ قيامهم بأي عملية عسكرية باتّجاه حلب أو الداخل السوريّ، يعني أنْ يتحمّلوا مسؤولية ذلك وحدهم، بل وأنذرتهم بمنع دخول أي جريح أو مصاب منهم إلى الأراضي التركية، وكذلك منع وصول الذخائر عبر المعابر والنقاط التركية. بكل ما يعنيه هذا الأمر من حجم “الفخّ” الذي أوقع هؤلاء أنفسهم فيه، حين اتّكأوا على الوعود الإسرائيلية والأميركية. ليجدوا أنفسهم تحت بصر ومراقبة طائرات الاستطلاع السورية والروسية التي لم تتوقّف على مدى الأيام الماضية، عن الظهور في سماء إدلب خصوصاً، وفوق أرياف اللاذقية وحلب وحماة.
تصاعدت هجمات القوات المسلّحة السورية وطيرانها الحربي على مواقع الفصائل الإرهابية في الشمال منذ بداية هذا الأسبوع، لتتخذ مساراً أعنف عند منتصفه، إذ شملت الاستهدافات معظم المواقع في تلك المناطق، وصولاً إلى توجيه ضربات قاسية جدّاً لمواقع “الحزب الإسلامي التركستانيّ” في ريف اللاذقية، وهو الحزب الذي يضم عدداً كبيراً من المقاتلين الآسيويين الأجانب، يساعدهم خبراء أوكرانيون يعملون في مجال الطائرات المسيّرة. وعلى هذا المحور تحديداً، وعلى تلال قرية “كباني” في ريف اللاذقية الشمالي، شنّ سلاح الجوّ السوري – الروسيّ المشترك، بعد ظهر الثلاثاء، أعنف الهجمات خلال هذا الأسبوع، موقعاً عدداً كبيراً من القتلى والجرحى بين صفوف “الحزب الإسلامي التركستاني” و”هيئة تحرير الشام”، ومن ضمنهم قياديون في التنظيمين المتحالفين.
وبالتزامن مع الهجمات على “تلال كباني” في ريف اللاذقية، بدأت المدفعية الثقيلة في الجيش العربي السوريّ، باستهداف مقار للمسلحين على محور الفوج /111/ في ريف حلب الغربيّ، واستطاعت تدمير أحد مقارهم وإيقاع عدد من مقاتليهم بين قتيل وجريح.
وبعد ظهر يوم الأربعاء، أعلنت وزارة الدفاع السورية عن إسقاط /9/ طائرات مسيّرة في ريفيّ اللاذقية وإدلب، كانت الفصائل الإرهابية قد أطلقتها باتّجاه نقاط عسكرية وقرى وبلدات في الريفين المذكورين. ليغير الطيران الحربي السوري والروسي بعدها، على مقار ومستودعات ذخيرة تابعة لـ”هيئة تحرير الشام” على التلال المحيطة بمنطقة “جسر الشغور” وبلدة “دركوش” في ريف إدلب الغربي.
ووفق متابعة دقيقةٍ لوقائع الميدان، لم تتوقّف العمليات العسكرية للجيش السوري والطلعات الجوية للطيران السوري والروسيّ حتى اللحظة، إذ ما تزال مواقع الفصائل المسلحة تتلقى القصف المدفعي والضربات الجوية على مدار الساعة، ولا يبدو أنّ العملية العسكرية القائمة، وبشكلها الحالي، قد تتوقّف قريباً، بل إنّ القرار بإضعاف هذه الجماعات والفصائل، تمهيداً للقضاء عليها، لا رجعة عنه، خصوصاً أنّها أعلنت عن نفسها بكل وضوح، كأداةِ من أدوات الحرب الهمجية التي يشنّها العدو الإسرائيلي الآن في المنطقة. ويبدو أيضاً من خلال المعطيات، أنّ التفاهمات الروسيّة – التركية ستبدأ بالتحقّق عمليّاً في الميدان، وأنّ تحضير الأرض لتفاهمات متقدّمة على المسار السوري – التركيّ، جارٍ على قدم وساق، وبالنار هذه المرّة، كما بالمعلومات التي يمكن لأنقرة تقديمها عمليّاً في هذا المجال.
من الواضح، أنّ سحراً كبيراً قد انقلب على “السَّحرة الصغار” في الشمال السوريّ، ليس فقط لأن كيان الاحتلال عجز على مدى أسابيع عن التقدّم خطوة واحدة باتّجاه لبنان، ناهيك بسوريا وإمكانيه تنفيذه مخططاً عسكريّاً جديداً فيها بالتعاون مع تلك الأدوات، بل لأنّ قوى المقاومة أثبتت خلال الأيام الأخيرة أنها قادرة على قلب جميع المعادلات في الميدان، وأنّها تقاتل وفق خطّة علمية مدروسة ومتدرّجة لا مكان فيها لردّات الفعل أو الانكسار أمام المصاب النفسيّ والمعنويّ، أو حيال التهديدات العسكرية والسياسية التي تأتي من كل حدب وصوب.
فكما كان الردّ الإيراني المزلزل رسالةً تكشف عن مدى جاهزية محور المقاومة واستعداده لكلّ الاحتمالات، جاءت العملية العسكرية السورية في الشمال لتؤكّد استراتيجية سوريا الراسخة في ضرب جميع الأوهام والمشاريع المستجدة الخادمة لمشروع الاحتلال، لتأتي عملية “بنيامينا” المجيدة، التي صعقت وأذهلت جبهة العدوان، وتؤكّد علوّ كعب هذه المقاومة وقواها، ووضوح طريقها الذي لا خيارات فيه سوى النصر ودحر المشاريع الاستعمارية، على عهد السيد الكربلائيّ الجليل، الذي ما زال صوته المبشّر بالنصر، يصدح في جميع ميادين المقاومة والشرف، وسيبقى.
سيرياهوم نيوز١_الميادين